العنوان:خلجات مقعدة
قصة قصيرة
بقلم الأديبة سحر القوافي
على مقعد السلوان والشجن..تتوسد الأوجاع والوهن..وترقب أطياف الحياة
تمر أمامها من سنين خلت..من الزمن الأعجف العربيد حيث كانت عائدة من
الحرم الجامعي إلى بيتها في الحافلة..تلك الرحلة المفجعة مازالت
تتشرش بذاكرتها ..نقشت كالأوشام والندوب التي خلفتها الحروق.. بترت
ساقيها وتركتها تصارع عنفوان الوحدة والوجع والعجز ..مازالت ظلال الإنفجار
تلقي بحجبها وشررها على أيامها الحبلى بالٱهات والأنين وفواجع المحن..
والسفر المشؤوم يحفر في ذاكرتها العتيقة أخاذيذ الصدأ ويمد جذوره في
خاصرتها وحاضرها..يكبلها بمقامع من اليأس والصقيع ..تلك الأصفاد التي
سترافقها حتى الختام ..الرحلة التي سرقت منها ربيعها وبسماتها والأحلام
وألقت بها في غيابات الظلام..
مازال السفر يرافق أنفاسها وخواطرها
والفاجعة تطل من نظراتها المنكسرة المعبأة بالأشجان ..كلما انتهى السفر ت
أحداثه من جديد..صارت تلك اللحظة البائسة كابوسا يجثم على صدرها
..فتغرق وهي نائمة في الصراخ والعويل تستجدي النجدة والانعتاق..هذا السعير
الذي يسكنها ويحيلها رماد إنسان..لياليها لا تشبه الليالي قتاد
وعبرات وكفن من عتم وألم..
مازالت في ذاكرتها الحافلة تتلوى مع
منعرجات الطريق مخلفة وراءها أزيزا ودخانا يخترق رتابة الجو المكهرب
المخيم على الركاب ويباغث وحدتها المنشغلة بانحذار الواد على الجهة
اليسرى وكأنه رتابة تتكرر ..تهرب عينيها نحو الجهة اليمنى فتقابلها الجبال
الصخرية بخضرتها الممزوجة من البني..مثل أوشام أكلها القدم ..وكأنها
على موعد مع القدر تمسك بيدها اليسرى وتنظر في الساعة الضاغطة
على لحم المعصم الذي أخذ تنمله يستفز هدوءها ..
فتجد العقارب تتحرك بتكتكات واهنة كأنها تحاكي صعوبة التنفس وألوان
البؤس البادية على وجوه الركاب ..كانت تلحظ هذه التفاصيل الصغيرة من خلال
تلك الألوان المتشابكة المنعكسة أطيافها على الزجاج الأمامي ..ومن البرودة
النازلة على صدرها الذي راح يمتلىء بغم مفاجىء كلما فكرت في ركوب
الحافلة..مسحت حاجبيها بالسبابة والإبهام وتركت خيالها ينزلق عبر شريط
من الذكريات هروبا من تلك النظرات المصوبة نحوها ..تتواسع أمامها
امتدادات رخوة صامتة ..تتحول الحافلة شيئا فشيئا إلى ما يشبه مقبرة
تتماوح في الطريق شبه الخالية من الحركة ..فالناس يلجؤون لغلق بيوتهم
قبل المغرب ويطفئون الأنوار ويخفضون صوت التلفزة خوفا من
مداهمة العصابات خاصة في المناطق شبه الحضارية والأحياء الشعبية الفقيرة
حيث تسهل عليها التغلغل والتحرك بحرية ..تتضخم الحلقة المفرغة الدائرة
حولها تحت الصمت المريب والنظرات الحيرى التي تطالعها..تعتدل في
جلوسها وتتابع تقدم الحافلة في سأم وضجر وقد تماوجت بخاطرها صور من
الأحداث الدامية التي غرق فيها الوطن محاولة فهم ما يجري من حولها ..الأزمة
السياسية الخانقة التي ولدت العنف والفوضى والرعب..ووجوه الركاب تبدو
مكدودة ممصوصة غارقة في البؤس واليأس والحرمان والضياع..
كانت نجوى شابة أنيقة بيضاء البشرة عيناها بنيتان واسعتان كعيون المها
تفيض بالحيوية والنشاط والمرح وفي حقيبتها يختبىء حلم يولد نسخة
مؤقتة عن شهادة الليسانس تؤهلها للمشاركة في مسابقات التوظيف..تأمل
بأن ترى نفسها معلمة في المدرسة القريبة من بيتهم أو سيدة مجتمع راقية
غير أن أحلامها لم تكتمل فقد دوى انفجار عنيف شطر الحافلة ورمى
بأشلائها وإرب الركاب في المنحدر اتجاه الواد، لقد زرعت أيدي الغدر قنبلة
في الجسر عند مدخل المدينة اعتقادا منها مرور قافلة رئيس الدائرة تحرسه
دوريات الأمن في ذلك الوقت حسب ماوردهم من معلومات جواسيسهم
..كان المنظر مرعبا صادما ..دماء وصراخ وأنين يملأ المكان وأبواق
سيارات الإسعاف والحماية المدنية ورجال الأمن.. والفرق الطبية والإسعاف
يلتقطون الأشلاء في الأكفان البيضاء ويرفعون جثث الموتى ويمددون
المصابين على الحمالات ينقلونهم إلى المشفى وقد توافد جمع غفير من
الأهالي والفضوليين وخيم الحزن والألم والوجوم على الجميع بينما دخل بعضهم
في نوبة بكاء ونحيب..
استيقظت نجوى في المشفى حيرى
مصدومة على عينيها غشاوة وهي تشعر برغبة في التقيء ولم تتقبل فكرة
تواجدها في غرفة الإنعاش ..تساءلت في نفسها عن السر وقد ظنت نفسها في
كابوس..أرادت أن تتقلب في الفراش فوجدت وسطها مشدودا إلى السرير
،وأحست بألم طفيف وثقل ولم تشعر بقدميها. كان نصفها السفلي مازال تحت
التخدير وشيئا فشيئا استعادت ذاكرتها لقد كانت في الحافلة وفجأة أحست
بقوة صاعقة ترمي بجسدها وسط دوي هائل لتجد نفسها في غرفة الإنعاش
..بدأت نجوى تستوعب ماحدث وحمدت الله على نجاتها..في هذه
اللحظة دخل فريق طبي توجه نحوها ألقى عليها التحية فردت وبدأ أفراده ي
نفسيا لتقبل حالها يحدثونها عن الإيمان بقضاء الله وقدره وابتلائه لعبده
بأصوات بدت لها قادمة من بعيد أو من رمس ليعلموها أنها فقدت ساقيها
فكانت الصدمة والفاجعة التي لم تتوقعها نجوى أبدا ستعيش مقعدة
ماحيت ودخلت في دوامة من الوجع والنواح والبكاء والصراخ فحقنوها
بمهدىء..ولبثت نجوى لفترة مطولة من الزمن تتأرجح بين الموت والحياة ..بين
رفض حالها والصبر على الابتلاء ..بين العويل والصمت والاكتئاب ..بين العقل
والوجدان والجنون ..خواطر متضاربة ..ومشاعر متناقضة متباينة والكمد
يمزق الروح وهي ترى أحلامها تموت ومستقبلها يضيع ..أضحت تحس أنها لم
تعد إنسانا كاملا ..هيكل مبتور بلا امل ولا مبتغى ولا روح .. ضعيفة تثير
الشفقة والعطف وتستجدي اللقمة والرحمة وما شئت من ضرورات
الحياة..كانت تسح العبرات غزيرة ليلها ونهارها وترسل ٱهات وأنات ..فقدت
خطيبها وحلم الأمومة والبهجة وطعم الحياة ..فكانت تمتنع عن الطعام لأيام
متعاقبة حتى ساءت حالها وشحب لونها واضمحل جسمها ..في رمشة عين أحرق
كل شيء ..الجمال والصحة والٱماني والهناء ..
مازالت نجوى تلازم مقعدها المتحرك في شرفة بيتها أو أمامه ترقب الحركة
خارجا وقد وطأت عتبة الخريف وبدأ الشيب يكلل شعرها ..ومازالت ترى البلد
لم يتغير ..دائما ترقب شوارع الليل ..وترى العصابات تتعاقب عليه ولم
تتباين فيها سوى الأسماء والوجوه..
ملقاة في مقعدها المتحرك تتذكر وجه
خطيبها الممتقع اللون وهو يزورها في المشفى ..غائصا في الهم كمن نفي من
أرض الوطن أو ينتظر السجن والإعدام ..ينظر إليها بطرف كليل حسير وقد
ألجمت فاهه الصدمة ووعورة الموق ،وهو يحاول إنتقاء بعض الكلمات
ليواسيها بها ..وقبل أن ينبس بأية كلمة خاطبته قائلة:
وفر عليك ما ستقوله..أعرف كل حرف ستنطق به..لقد شاءت الأقدار أن تفرق
بيننا ..أنت حر ..لكل منا حياته التي كتبها الله له..وانتزعت خاتم الخطوبة
من إصبعها ووضعته على الطاولة الصغيرة المحادية للسرير وقالت له :
خذه أرجوك ..لا أريد أية ذكرى تبتر أصابعي بعدما بترت حياتي ..فلست
اليوم إلا ذكرى من رماد ..سأحيا كالوثن..مفرغة من الحياة معبأة
بالمٱسي والشجن..
ارحل ..لا أريدك أن تشفق علي ..ولا أن تلقي على مسامعي أي سراب ووهم..
وكم كانت الصدمة أشد وأمر وهي تراه يلتقط الخاتم ويدسه في جيبه
وينصرف دونما وداع أو أمنية يلقيها أوالتفاتة خلفه..فر متسللا كمن أطلق
سراحه من الأسر أو أنه جاء لأجل استعادة الخاتم فلما نال مراده انسحب
على عجل..ذرفت دموعا حارة تحمل كل عذابات البشرية وأوجاعها وقد
اكتشفت أن المصلحة هي وشيجة جميع العلاقات حتى الحب الذي طالما تغنت
به وبطهره وروحانيته ..ها هو يغتاله ويمضي في سبيله غير مبال بحالها ولم
ينتظر حتى تلتئم جراحها وتسلو عن محنتها وتستعيد بعضا من توازنها فبكاء
الروح لا يضاهيه بكاء حينما تصبح الشابة المليحة كقطعة قماش مهملة
..حين يهجرك الأحباب والخلان في لحظة الوهن..و تمسي عالة على
غيرك..كقطعة غيار صدئة تناساها الزمن..
مرت الشهور والأعوام ونجوى تعيش مأساتها في وجع ووحدة وكٱبة
وديجور..ولاح بريق الأمل يغمر فؤادها كلما تلت ٱيا من كتاب الله ..فأولته
عناية فائقة ..وتعمقت في أحكام التلاوة والفقه واللغة وأقبلت على دراسة علوم
الدين واجتهدت في حفظ القرٱن حتى تمكنت منه ونجحت نجوى في مسابقة
توظيف معلمي القرٱن الكريم والتحقت بالمدرسة القرٱنية وكسبت الاحترام
وشهد لها الجميع بالكفاءة والجدية وحولت مستودع والدها إلى قسم تعلم
فيه القرٱن لأطفال حيها ..وأنشأت جمعية أمل للمعاقين وكانت تردد دوما
“عسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله لكم فيه خيرا كثيرا”
ورغم ذلك مازالت الفاجعة تلقي بظلالها عليها..مازالت ترى من شرفة بيتها كل
ليلة عصابات الرعب والنهب تتسلل تحت جنح الظلام لتسلب الناس
أغراضها وأشياءها وأموالها وطهرها بأوجهها المقنعة ..وتلزمهم باحترام
قانون الغاب ..تعربد وتتسلل وتختلس وتقهر ..كل يوم بقناع مختلف ولون
مغاير ..ولما انكشف رؤساء العصابات وعرفوا بين السواد الأعظم أسندوا
الأدوار لأبنائهم ..وما أكثرهم وأكثر الأقنعة وألوانها ..لقد ازداد السطو
والنهب وعشش البؤس واليأس والحرمان بين الناس وغابت البهجة
..و تكاثرت أعداد اللصوص وأصبح من الصعب تمييز وجوههم ومعرفتها في
ظل الأقنعة المبدعة التي راحوا يغيرونها كل ليلة ..ويستبدلون كل
من انكشف ووجهه وعرفه الناس أو يلبسونه قناعا جديدا..
مغمسة روحها في والوجع والأسى وعواصف هوجاء من بؤس وصقيع
وردى وشجن تلهو بها وترميها في دوامة من فراغ لا تنتهي..مترعة بالكمد
والوهن ملقاة على مقعد النسيان والقتاد ..يجافيها الكرى والحلم ..ويحفها
كابوس من الظلام والفزاعات وأطياف الإجرام ..تهيم في سراديب السراب
التي عمت أرجاء الوطن..ولا شمعة تنير هذا الديجور السحيق..
قصة قصيرة بقلم الأديبة الجزائرية سحر القوافي