عندما يكثر الحديث عن النفس
بقلم /محمد الدكروري
أصبحنا نعيش اليوم فى ما يسمى بأزمة الأنانية وعبادة الذات
، وإنّ معظم مشاكل الإنسان سوى كانت نفسية ا وسياسية او
اقتصادية اوإجتماعية، وحالات الصراع والخلافات في
المجتمع والأُسر والعشيرة تعود إلى الأنانية وعبادة الذات،
والعقل التسلطي ، وإنّ حب الذات غريزة مركوزة في أعماق
الإنسان، وهذا الحب والإعتناء أمر مباح عندما يكون التعبير
عنه صحِّياً وسلميّاً.
فمن حق الإنسان أن يحبّ الخير لنفسه، ويدفع الأذى والضرر
عن نفسه ، ويُحقِّق لها التفوّق وان يكون مقبولا في المجتمع ،
غير أنّ هذا الحب للذات يتحول عند بعضنا إلى حالة مرضية،
وعدوانية، واستحواذ على كل شيء، وإلغاء للآخر وحرمانه
وعدم الاعتراف في وجوده كانسان له مقوماته الاجتماعية ،
و حتى يحرم من حقوقه المشروعة، ووضع العراقيل والموانع
أمامه؛ لئلا يرتقي إلى مستوى منافسته أو التفوّق عليه ، بل
تتحول الأنانية إلى العداء والإفتراء ونكذب حتى نبعده عن
الساحة التي نعيش بها سويا .
والنفس البشرية تخفي تحتها أمراضًا داخلية، من آفات
ودسائس، وشرور وخبائث؛ ولذا كان من الخير والفلاح للعبد
أن يعالج هذه الأدواء، ومن الشـر والخيبـة أن يتركها تعشش
على قلبه حتى تفسده وتهلكه ، وأنّ ثقافة القرآن تُربِّي
الإنسان على التوازن بين حُبّ الذات وحبّ الخير للآخرين ،
بل إنها تسعى لتحرير الإنسان من الأنانية والنرجسية، وربط
هذا التوازن بالإيمان.
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يُعبِّر عن ذلك بقوله: “
لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه “، وقوله: “
خيرُ الناس مَن نفع الناس “. والجدير بالذكر ان هذا اصبح لا
يعمل به في مجتمعنا واوكد هذه الملحوظة على مجتمعنا
العشائري نرى ان البعض يسعى بكل طاقاته الى اسقاط الاخر
اما بالدعاية او التزلف الى اهل الوجاهة والسلطة .
وإنّ مظاهر التعبير عن عبادة الذات كثيرة ، ويتحدث القرآن
عن الحسد كأحد مظاهر الأنانية ، والحسد كما يُعرِّفه علماء
الأخلاق هو: (تمنِّي زوال نعمة من مستحقّ لها) أى أنّه تمنِّي
زوال نعمة الآخرين؛ ليكونوا أقل منه، أو ليتراجعوا، ويخسروا
ما عندهم، فيكونوا مثله، إن كان فاقداً للصحة أو الولد أو
المال أو الجاه، أو الموقع الاجتماعي .
ومن أمراض النفس البشرية التي تحتاج إلى وقفة وتذكير،
ومعالجة وتصوير: مرض الأنا، وما أدراك ما مرض الأنا، إنه
مرض انتفاخ الذات، وتضخيم النفس، وتمجيد الروح ، وكلمة
الأنا تخفي تحتها أمراضًا وأدواءً، من العُجب والاستعلاء،
والأنانية والكبرياء، إنها كلمة تحمل في طياتها لغة الغرور،
ونزعة التزاهي، ولهجة النكران، ومنطق الجحود، إنها الكلمة
التي استخدمها إبليس في المحاججة والمعاندة.
إنها الكلمة التي رددها فرعون وباهى بها، فقال: (أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلَى) وهي الكلمة التي فاخر بها صاحب الجنتين، فقال
لصاحبه وهو ظالم لنفسه: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) وهي
الكلمة التي استشربها قارون في نفسه، فقال ناسبًا ثراءه إلى
عندياته: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) وإنها الكلمة التي تجعل
الإنسان لا يرى إلا نفسه، ولا يهتم إلا بشخصه، ترى هذا النوع
من البشر مصابًا بداء العظمة، هائمًا في عالم النرجسية، مستغرقًا مع خيالات الطاوسية.
هو صواب وغيره خطأ، هو معرفة وسواه نكره، هو حاضر
والباقي غائب ، أفكاره هي المختارة، وأقواله هي المقدَّمة،
فهو الأفهم والأقدر، وهو الأحرص والأنقى ، فهذا النوع من
البشر إن تحدث فدندنته حول نفسه، لا يفتأ من ذكر محاسنه
وبطولاته، وتاريخه ومغامراته ، ويحزن إن لم يبجَّل، يغتم إن
لم يُقَمْ له، وهمه كيف تنصرف الوجوه لي، تفكيره ، كيف أجعل الأسماع تصغي إليّ؟!
مفتون بالأضواء، مبهور بحب الشهرة ، فهذا المنتفخ بالأنا ذاته
هي الأول والآخر، لا تهمه مصالح الآخرين، لا يعنيه شأن أمته،
ولا يحزنه تدهور أوضاعها ، فهذا النوع من البشر بحاجة إلى
أن يتذكر حقيقته، وهو أنه بالأمس كان نطفة قذرة، وهو
اليوم يحمل بين جنبيه عذره، وهو غدًا محمول إلى حفرة.
وفتنة الأنا لا تنبت إلا في نفس مريضة، وقلب عليل، لكنَّ لها
مهيجات مغذيات تسوق سوقًا إلى هذا الداء، فالمنصب
العالي، والثراء الفاحش، والشهرة الواسعة فتن لمَّاعة، ربما
جرت صاحبها لمرض الانتفاخ والتعاظم، والمعصوم من عصمه
الله ، وداء الأنا له صور وأشكال، قد يكون بلسان المقال، وقد
يأتي بلسان الحال، قد يكون في صورة الغرور والتعالي، وقد
يأتي في شكل حب الذات والأنانية ، وقد يأتي في سياق
الوضوح والصراحة، وقد يجيء في صور التعريض والإلماحة.
اولحديث عن النفس في سياق الإطراء صورة صريحة للأناء ،
ومرآة الناس بالأعمال صورة صامتة للأناء، وفي الحديث: “
الرجل يقاتل ليرى مكانه”، لا حظ له من أجر الشهادة.
والنقد اللاذع للآخرين، وحشد هفواتهم، وتقزيم آرائهم،
واحتقار أفعالهم، هي رسائل خفية لإعلان شأن الذات ،
والتعصب للرأي، وعدم الرجوع للحق، خشية التعرض للقدح
والتنقص، أنا متجذرة، دالة على الكبر والغرور.
والأنفة من النصيحة، استصغارًا واحتقارًا لأهلها نوع آخر من
التكبر، سببه الأنا ، والكبر في ميزان الشرع “بطر الحق، وغمط
الناس”، أي: رد الحق، واحتقار الناس ، وكذلك التقدم على
كبار السن في المجالس، فيه ما فيه من حب البروز، ونزعة
الأنا ، ومن يتخطى غيره في أماكن الترتيب والاصطفاف، ولا
يقدر للناس وقوفهم وانتظارهم، تصرف مقيت، وأنانية مرذولة.
ومن يغلق بسيارته الطريق، أو مراكب غيره، لأجل مصالحة
الخاصة، تخلف حضاري يوحي بالأنانية والأنا ، وأسوأُ صور
الأنا وأشنعها ، أن يتطفل صاحب الأنا على مقام الشريعة بلا
علم، فيجعل لنفسه حق الاجتهاد، والفتيا في النوازل، والفصل
في مضائق المسائل، وهو مع ذلك جاهل بالناسخ والمنسوخ،
لا يميز المحكم من المتشابه، ولا يعرف الصحيح من الضعيف،
وربما لا يحسن قراءة بعض آيات التنزيل.
وليس كل من قال: أنا، فهو بالضرورة قد وقع في داء الأنانية
أو الغرور، ليس كل من قال: أنا، فهو متعالٍ على الغير متكبر،
كلا، قد قال خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم يوم حنين:
” أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب”، وقال: “أنا سيد ولد
آدم ولا فخر” ، فقد يتحدث المرء عن نفسه لحاجة، لا كبرًا ولا
مفاخرة، وإنما من باب الاقتداء به، أو للتحدث بنعمة الله عليه
، والميزان في ذلك مقصد القلب، وما يكنه الصدر لا يعلمه إلا علام الغيوب.
ومن أثار الانانيه هو اختصاص الذّات أو الأقارب بالمصالح
والمنافع دون غيرهم وهى أضرار كثيرة على الفرد والمجتمع،
لأنّها نوع من الأنانية البغيضة يجلب الحقد بين الأفراد، ويمنع
من وصول الحقوق لأصحابها، وتلك حالة تدعو إلى تذمّر
أصحاب الحقّ، وإلحاق الأذى بمن استأثر دونهم بالمال أو
الوظيفة أو نحو ذلك ممّا ينبغي أن يكون الجميع فيه سواء.
وإنّ الأثرة والأنانية إذا شاعت في مجتمع من المجتمعات
انحلّ عقده، وانفصمت عراه؛ لأنّ ذلك ظلم لأصحاب الحقوق،
وظلم أيضا لذوي الأثرة الّذين يحصلون على حقوق الغير، ممّا
يجعلهم كسالى مغرورين، وإذا ما حدث تبدّل في الأوضاع،
فإنّهم يطالبون بردّ هذه الحقوق الّتي غالبا ما يكونون قد
أضاعوها لعدم تعبهم في الحصول عليها، وحينئذ تنقلب
المنافع إلى مهالك ، الحقّ على المسلم ألّا يؤثر نفسه، أو
أقاربه، أو أصهاره، أو مقرّبيه بنفع لا يستحقّونه، حتّى لا يعود
ذلك وبالا عليه وعليهم .
وعليه أن يتحلّى بعكس هذه الصّفة وهو الإيثار بأن يفضّل
غيره على نفسه، وحينئذ فقط يصبح من المفلحين الّذين
تخلّصوا من شحّ أنفسهم وبخلها بالمنافع على الغير، فإن لم
يفعل فالواجب عليه العدل بأن يعطي كلّ ذي حقّ حقّه، وله
في أنصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة طيّبة حيث
مدحهم المولى سبحانه وتعالى بقوله: ” وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ” وعلى من وقعت عليه الأثرة أن يصبر ويحتسب
من ناحية، وأن يطالب بحقّه بالمعروف، سائلا المولى سبحانه
وتعالى أن يعينه، فالله سبحانه خير معين.
زر الذهاب إلى الأعلى