أين ذهب الإحسان من قلوب الناس
أين ذهب الإحسان من قلوب الناس
بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
عندما نتكلم عن الإحسان فيجب علينا أن نتكلم عنه ونبينه كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الإِحْسَانُ قَالَ ” الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ” متفق عليه .
وفضل الاحسان فضل عظيم ، ومقام الإحسان مقام رفيع؛ فهو غاية مراد الطالبين، ومنتهى قصد السالكين؛ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، والإحسان خلق جميل؛ فهو دليل على النبل، واعتراف بالفضل، وعرفان للجميل، وقيام بالواجب، واحترام للمنعم، وينبئ عن الصفاء، وينطق بالوفاء، ويترجم عن السخاء .
وبالإحسان يشُترى الحب، ويُخطب الودّ، وتكسب النفوس، ويُهيمن على القلوب، وتستعبد الأفئدة ، والإحسان عطاء بلا حدود، وبذل بلا تردد، وإنعام دونما منّ، وإكرام لا يلحقه أذى، فالمحسن لا يؤذي أحدا، فإن آذاه أحد عفا وصبر وصفح وغفر، وإذا عامل الناس عاملهم بالفضل والإحسان، فيعطيهم وإن منعوه، ويَصِلهم وإن قطعوه، ويمنّ عليهم وإن حرَموه، وإنما كان كذلك لأنه كان بالله غنياً، وبه راضياً، ومنه قريباً، ولديه حبيباً.
فالإحسان ذروة الأعمال، وهو أن تقدم الفعل من غير عوض سابق، بل يساء إليك ولا يسعك إلا أن تقدم الإحسان، فكل إحسان يفعله العبد حتى فيمن لا يستحقون لابد أن يكافئه عليه الله تعالى: ” هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ” فاصنع المعروف في أهله وفي غير أهله، فإن صادف أهله فهو أهله، وإن لم يصادف أهله فأنت أهله.
فمَن أحسن مع الله أحسن مع الناس، ووجد في قلبه سهولة الإحسان إليهم، ومن صور الإحسان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما عاد عليه الصلاة والسلام من الطائف بعد أن آذوه وطردوه كما فعل به أهل مكة ،طلب من يأويه من أهل مكة فيمنعه من أذى قريش فأرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدي: أدخل في جوارك ؟ فقال : نعم ، ودعا بنيه وقومه فقال : البسوا السلاح ، وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدا،
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام،
فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى : يا معشر قريش إني قد أجرت محمدا، فلا يهجه أحد منكم .
فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه ، وصلى ركعتين ، وانصرف إلى بيته ،والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته ، وهذا الموقف وهذا الإحسان من رجل كافر لم يغب عنه عليه الصلاة والسلام ، فلما كانت وقعة بدر ووقع رجال قريش في الأسر فقد أُسر سبعون منهم ما أعظمها من غنيمة ونصر فقد كلم عليه الصلاة والسلام الصحابة في الأسرى فمن قائل بقتلهم كعمر ومن قائل بفديتهم كابي بكر ، ولكنه عليه الصلاة والسلام قال وقد مال للفداء لو كان المطعم بن عدي حيا وكلمني في هؤلاء لأطلقتهم له، وقد كان المطعم بن عدي مات قبل بدر وعمره فوق التسعين عاما ، فهو يطلقهم لذلك الكافر من غير مقابل جزاء ذلك الموقف وذلك الإحسان .
واعلموا أن أعظم ثمرات الإحسان قوله تعالى: ” لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ” والحُسْنَى: أي البالغة الحسن في كل شيء، من جهة الكمال والجمال، وهي الجنة، وقد ثبت عن النبي في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة، ولا يخفى ما بين هذا الجزاء وذلك الإحسان من المناسبة، فالمحسنون الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، جزاهم على ذلك العمل النظر إليه عياناً في الآخرة .
وهناك قصص الإحسان التي نستخلص منها الدروس والعبر فمعنا قصة هذا العجوز الحكيم
وهى انه قد جلس عجوز حكيم على ضفة نهر وفجأة لمح قطّاً وقع في الماء ، وأخذ القطّ يتخبّط ؛ محاولاً أن ينقذ نفسه من الغرق .قرر الرجل أن ينقذه فمدّ له يده فخربشه القطّ فسحب الرجل يده صارخاً من شدّة الألم ، ولكن لم تمض سوى دقيقة واحدة حتى مدّ يده ثانية لينقذه ،فخربشه القطّ ، فسحب يده مرة أخرى صارخاً من شدة الألم ، وبعد دقيقة راح يحاول للمرة الثالثة !!
وعلى مقربة منه كان يجلس رجل آخر ويراقب ما يحدث ، فصرخ الرجل :أيها الحكيم ، لم تتعظ من المرة الأولى ولا من المرة الثانية ، وها أنت تحاول إنقاذه للمرة الثالثة ؟
لم يأبه الحكيم لتوبيخ الرجل ،وظل يحاول حتى نجح في إنقاذ القطّ ، ثم مشى الحكيم باتجاه ذلك الرجل وربت على كتفه قائلاً: يا بني : من طبع القطّ أن يخربش ومن طبعي أنا أن أُحبّ و أعطف ، فلماذا تريدني أن أسمح لطبعه أن يتغلب على طبعي !؟
يا بني : عامل الناس بطبعك لا بطبعهم , مهما كانوا ومهما تعددت تصرفاتهم التي تجرحك وتؤلمك في بعض الأحيان، ولا تأبه لتلك الأصوات التي تعتلي طالبة منك أن تترك صفاتك الحسنة لمجرد أن الطرف الآخر لا يستحق تصرفك النبيل ، فعندما تعيش لتسعد الآخرين.. سيبعث الله لك من يعيش ليُسعدك ” هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ” .
والإحسان في العبادة؛ أن تؤديها كما أمرك الله وكما بينها لك رسول الله، أن تجعلها خالصة لوجه الله، أن تؤديها تامة كاملة بأركانها وواجباتها وسننها ومستحباتها، أن تؤديها في أوقاتها إن كان لها وقت محدد، أن تجعلها عبادة تطهر بها قلبك وتزكي بها نفسك، وتغير بها سلوكك وتنَمِّي بها أخلاقك، فمَن لم يتغير سلوكُه ولم تتحَسّن أخلاقُه بعبادته فليعلم أن عبادته ناقصة ، فللعبادة الصحيحة أثر على الأخلاق وأثر على السلوك وأثر على المعاملة.
والعبادة لا تخضع للأهواء ولا للآراء ولا لشهوة النفس ونزواتها؛ بل هي ما شرعه الله وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فواجب على العبد أن يتحرى الصواب فيها، وأن يسأل أهل الذكر فيما لا يعلم ، ومن صور خلق الاحسان في حياتنا ، الإحسان في القول والعمل ، فالقول ينبغي أن يكون طيبا حسنا مفيدا ، فقد قال سبحانه وتعالى : ” وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ” وقال عز وجل: ” وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً “.
فواجب على المسلم أن يُعوّد لسانه على الكلام الطيب والقول الحسن، وأن يستعمله فيما ينفعه في دنياه وفي أخراه ، وأن يمسكه عن كل قول سيئ وقبيح، فقد قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ” . متفق عليه
وكما أمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان في العمل؛ سواء أكان العمل في أمور الدين أو في أمور الحياة، فقال الله سبحانه:” وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ” فالإسلام يَدعو إلى إتقان العمل وزِيادة الإنتاج، ويعدُّ ذلك أمانة ومسؤوليَّة، فليس المطلوب في الإسلام مجرَّدَ القيام بالعمل، بل لا بُدَّ من الإحسان والإجادة فيه وأدائه بمهارة وإحكام .