عظماء من التاريخ (١٩
عظماء من التاريخ (١٩)
محمد عطيه
هو ابن عم النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،هو حبر الأمة وترجمان القرآن، ولد قبل هجرة المصطفى- النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث سنوات، وتوفى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ورغم ذلك حرص على تهذيبه وتربيته، وإعداده إعدادًا قويمًا، وتوجيهه التوجيهَ السَّليم، فنراه يحمله على بغلة، أهداها له كسرى، ويقول: «يا غلام». قلت: لبيك يا رسول الله. قال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة……»، وكأن النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاحظ على الغلام فطنة حادة فأراد أن يجعلها طاقةً مفيدة، وشُعلةً نيِّرة فيما يَنفع ويفيد الأمَّة، ويوجهه إلى استثمار موهبته واستغلالها فقال: «اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل»،
عبدالله بن عباس
. قال ابن عباس: «ضَمَّنِى النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ, وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ» «متفق عليه».
ولا شك أن بركة دعاء النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس رضى الله عنه ظهرت فى أقواله وأفعاله وتصرفاته، فتحقق فيه قول الحق تعالى ﴿َمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ «البقرة من الآية (269)»، ولما قبض رسول الله النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، استشعر ابن عباس المسؤولية الملقاة على عاتقه فطلب من رجل من الأنصار أن يجتهد فى جمع العلم من الصحابة فتعجب منه قائلًا: «واعجبا لك يا ابن عباس، أترى الناس يفتقرون إليك وفى الناس من أصحاب رسول الله النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فيهم»، وكثير ما يفتر حماس الشباب فى عصرنا الحاضر من كلمات المثبطين العاجزين عن تحقيق أهدافهم، فيتوقفون عن الأمل إلا أن أهل المواهب والأهداف السامية من أمثال ابن عباس تتحطم تلك الكلمات تحت أقدامهم، فإذا به ينشط فى طلب العلم من الصحابة، حتى قال: «وإن كان يبلغنى الحديث عن الرجل فآتى بابه وهو قائل فأتوسد ردائى على بابه يسفى الريح على من التراب فيخرج فيرانى»، فيقول: «يا ابن عم رسول الله النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلى فآتيك ؟» فأقول: «لا، أنا أحق أن آتيك» قال: «فأسأله عن الحديث»، ويعيش هذا الأنصارى حتى يرى الناس وقد اجتمعوا حول ابن عباس فيقول نادمًا: «هذا الفتى كان أعقل منى»، لقد منحه الله الحكمة، ونور قلبه بنور القرآن، فصار ابن عباس حصنًا حصينا للمسلمين من كل خرافة، ومن كل مبالغة فى الدين، لأنّ أخطر شىء فى الدين المبالغات، ويلحظ الخلفاء الراشدون الحكمة تتفجر من أقوال ابن عباس وتصرفاته فيقدمه أبو بكر، ويقربه الفاروق عمر ويقول: «ذلك فتى الكهول، له لسان سئُول، وقلب عقول»، وإذا واجهته معضلة دعا إليه كبار الصحابة، ودعا معهم عبدالله بن عباس، ويوليه عثمان إمامة الحج، فى أخطر لحظات حياته، لما حُصِرَ فى بيته، ويجعله على بن أبى طالب واليًا على البصرة، وتتوِّجه الأمة الإسلامية بلقب حَبر الأمة وترجمان القرآن، ولأن السر فى الحكمة يقول ابن عباس «خذ الحكمة ممن سمعت؛ فإن الرجل يتكلم بالحكمة وليس بحكيم، فتكون كالرمية خرجت من غير رامٍ».
وولاه عثمان إمامة الحج سنة خمس وثلاثين من الهجرة لما حُصِرَ في بيته فرجع القوم يتحدثون عن علمه وفقهه وأنه أقرب الناس إتباعاً لسنة النبى محمد صلى الله عليه وسلم وممن أقر له بذلك بعض أزواج النبى ولما عاد من الحج وجد أن عثمان قد قُتل رضى الله عنه ولما بُيعَ لِعَلى بالخلافة أراد أن يستعمله على الشام فاستعفاه وقال يا أمير المؤمنين بل إجعل معاوية بن أبي سفيان عليهم ثم أمّرهُ على البصرة فكان أهلها يُغبطون بإمرته عليهم رضى الله عنهم أجمعين
وبعد حياة علمية ثرية لحق ابن عباس بالرفيق الأعلى عام 68 من الهجرة فى مدينة الطائف، وكان عمره 71 عامًا، ولذا يجدر بالشاب المسلم ونحن فى هذه الأيام المباركات أن يلتمس هذه الأخلاق الراقية، ويقدر الناس حق قدرهم، ويتكاملوا فيما بينهم، واجعلوا من مجتمعكم مجتمعا عفيفا نظيفا راقيا نشيطا عاملا منتجا، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا.