كتب / محمود درويش
الحرب العالمية الأولى، ديسمبر 1914
الثلوج تتساقط على أرض جفت الدماء عليها ليتحول لونها من الأبيض إلى الأحمر الداكن ، صمت تام خيم على المنطقة الفاصلة بين خنادق مُعسكري القوتين المتحاربتين، وتسمي بالمنطقة المُحرمة
في الخنادق جنود كرهوا الحرب وكفروا بكل أسباب القتال ، الأوامر الصادرة إليهم كانت صارمة ولامجال للعودة للوطن إلا بانتصار مُعسكر وهزيمة الآخر
ووسط الحزن المرسوم على وجوه الجنود البريطانيين في خندقهم، بدأو في الحديث فيما بينهم، وأخذت أصواتهم تتعالى ، أصواتهم كانت هي الملاذ من كآبة الحرب، صنع بعضهم كرة بدائية من ورق الشجر زينوها بأزرار بدلهم العسكرية، دُخان سجائرهم صنع سحابة فوق الخندق وصدى أغانيهم ملأ المكان من حولهم، صدى عال سُمع حتى في الخندق المُقابل حيث الجنود الذين طالما وصفهم قادتهم بالأعداء
وعلى الجانب الآخر تم رصد حركة غريبة غير اعتيادية، حيث تحركت متاريس خندق الألمان وبدأت الترانيم تتعالى، يُمكنك إدراك انها أغاني أعياد الميلاد حتى وإن لم تكن تفهم اللغة الألمانية
كانت المرة الأولى التي يستمع فيها الجنود لأصوات غير أصوات القذائف والطلقات النارية
خرج أحد الجنود الألمان من الخندق رافعآ يده متحدثآ : “اليوم لن تمسكم نيراننا، ونيرانكم لن تمسنا” فحذى جنديآ إنجليزيًا حذوه وتقدم كل منهما بحذر في اتجاه الآخر بدون سلاح خفي وبدون نية للغدر، كل خطوة خطاها أحدهما ناحية مُعسكر الآخر دهست أمر قائد في طريقها، وكسرت قواعد وُضعت في غرف مغلقة لكن أحدًا منهم لم يهتم، مد أحدهما يده بالسلام واستقبلها الآخر بحفاوة افتقدها منذ زمن بعيد
تبادل باقي الجنود نظرات مفهومة للجميع، إنها ليلة عيد الميلاد، ليلة هُدنة واحدة لن تضر، لا شيء سيصنع ضررآ أكثر مما صنعته الحرب، خرج الجنود من خنادقهم واحدًا تلو الآخر، أيادي تمتد بالسلام وأحاديث تبدأ بينهم بكلمات قليلة تعلمها بعضهم من لغة الآخر في فترة الحرب السوداء.
وبعد دقائق من اللقاء الكاسر للقواعد ألقى أحدهم بالكرة التي صنعوها وسط الجمع وكون كل مُعسكر فريقآ لكرة القدم وبدأت مباراة لا تقل روعة عن لقائهم هذا، المنطقة المحرمة تحولت لملعب كرة قدم صغير تحيطه جماهير ببدلٍ عسكرية يهتفون ويشجعون لاعبين ببدلٍ عسكرية، مباراة كرة قدم أوقفت حربآ بين قوتين عظمتين مثل بريطانيا وألمانيا
جندي ألماني يُدخن سيجارة إنجليزية يصفق مهللًا بمراوغة أحد اللاعبين، وجندي إنجليزي يتذوق للمرة الأولى طعم التبغ الألماني يحتفل بهدف فريقه، مباراة فقدت فيها الأهداف أهميتها لصالح هدفٍ أكبر، ليلة سلام وقف فيها الجنود دون خوف من قذيفة طائشة أو من خطة يُنفذها المُعسكر الآخر تهدف إلى أن يُصبح خندقهم مقبرة كبرى تتعفن فيها جُثثهم حتى يُحقق السادة والساسة والقادة مكسبآ عظيماً.
انتهت المباراة بأعظم نتيجة في تاريخ مباريات كرة القدم، انتهت بتبادل هدايا أعياد الميلاد حيث تقاسم الجنود الطعام والهدايا المرسلة إليهم من بلدانهم، وتبادلوا أزرار بزّاتهم العسكرية كتذكار يُخلد مباراتهم ، عاد كل فريق إلى خندقه دون خوف من إعطاء ظهره للفريق الآخر، عادوا وهم يُمنون النفس بليلة سلام أُخرى مثل تلك الليلة
كرة القدم قادرة على صنع المعجزات حتى في أحلك الأوقات.
زر الذهاب إلى الأعلى