بقلم / محمود درويش
عـندما بدأت الاغتراب عـن منزلي، كُنت طالبًا بالكلية وتحديدًا بالسنةِ الـرابعة، أجبرتني الامتحانات المُتلاحـقة أن أهجُرَ المنزلَ قليلًا.
كُنت دومًا ذاكَ الشخص البيتوتي الذي يرى إتساع الكَون عبر شُـرفات الغرفة، أيامي الأولى باللاغتراب أذاقني الـقدَر من كأسٍ جاء طعمها مُـرًا لدرجةٍ صـادمة، بدأت أنظُر للأمور بطريقة مُـغايرة.
عشرات التفاصيل التي طـالما رأيتها عـادية لم تعُد هكذا، باتَ تدبير الطعام والشراب وترتيب السَرير فورَ الاستيقاظ وغسل الملابس وكيّها أعمال ثقيلة، تستنزفُ مني ساعاتٍ يـوميّة.
فكّـرت في أُمي، قتلني تأنيب الضمير وتمام الجحود، كُنت أعمًا مغشيًا ضعيف الإدراك، كانَت مولاتي تقفُ طوال اليوم لتطهي وتُنظّف وتُهندم البيت الذي يسكُنه فوضويون يتجسّدونَ بي أنا واخوَتي.
نجلس إلى المائدة فأُبدي رأيًا أفلاطونيًا حـول الطعام، كنَقد وكمعايير وتوابل، ويـحي!
أصرُخ كالمجنون كَون القميص توجد به ثنية عبثيّة غـَير مرأية إلا بعدَ تدقيقٍ حـنبلي، وهي تبتسم وتجود بما يترآى لي وتُـعدّله! لله درّك يا أُمي، أيُّ عطاءٍ مـنحتنيه وأي عته تجسّدَ بي!
كُنت أنفق ساعاتٍ يومية لتأدية احتياجاتي، التفاصيل التي من فـَرط كـونها مُتاحة زهدت في كونها نـِعـَم ضخمة!
فَهمت الآن، لماذا كانت تشكو من آلام القدم، أو يُعيها ألمُ الظَـهر، أو تنامُ ليلًا كالقتيلة إبان مجهود يقضُم سواعد الـرجال!
أو تقضي ساعاتٍ تُناجي الله سجودًا وركوعًا بشأني أنا واخوتي، فضلًا عن كـونها موظفة، لا تعرف في قاموسِ الحياة إلا العمَل.
كُنتُ أندهش من هذه السيدة، وأزدري نفسي، يا لجحودي، ويا لضعفي إذا ما قورنَ بقوة هذا السيدة.
لقـد كـانت حياتي في مُجملها إكرامًا من الله على دعـوات أُمي لي، كانت دومًا الأم المثالية وكُنا جميـعًا أبعد ما يكون عن المسئولية حـتى.
جزاكِ الله عنّا خيرًا يا أمي، ولا حرمنا من بئر عطائك الذي لم يعهـَد يومًا بـأي نضوب ولم يكن له يومًا أي مُقابل!
زر الذهاب إلى الأعلى