بقلم السيد السفير تورال رضاييف / سفير جمهورية أذربيجان بالقاهرة
أثناء زيارته للأراضي المحررة ومشاهدته لحجم الدمار والعبث بمقدرات الشعب الأذربيجاني، الثقافية والدينية والتاريخية؛ بل والثروات الطبيعية، قال الرئيس إلهام علييف: “انتصار دولة أذربيجان لم يكن إنهاء للاحتلال الأرميني فحسب؛ بل قضى على الفاشية الأرمينية”.
بعد 29 عامًا.. يأتي إحياء الذكرى التاسعة والعشرين على إبادة جماعية “خوجالي”، التي ارتكبها الفاشيون الأرمن بحق الآذريين العزل، ليلة السادس والعشرين من فبراير1992، هذه المرة، وسط احتفالات شعبية ورسمية لا ولم ولن تنقطع بنصر عزيز مؤزر واستعادة الأراضي الأذربيجانية المحتلة.
إحياء الذكرى هذه المرة يأتي بطعم العزة والفخر.. يأتي وقد مسح الله على قلوب أسر الشهداء سواء في “خوجالي”، أو في مواجهات ومعركة التحرير الكبرى بنصر لا مثيل له في القرن الحادي والعشرين.
إن الشعب الأذربيجاني وقيادته، لا ينسيا أبدًا شهداءهم.. ولا حقوقهم في محاسبة المجرمين الذين ارتكبوا هذه الإبادة ولو بعد 29 سنة.
إن إبادة جماعية “خوجالى” كانت إحدى أكبر الأدلة على عنصرية وفاشية القوات الأرمينية، وراية ترشد الراغبين في السلام على مسيلي دماء البرءاء، ولا تزال قضية تنتظر العدالة الدولية الغائبة.
الإبادة الجماعية
قوات الجيش الأرمينية الطامعة في الأراضي الأذرية، والمدعومة من قوات المشاة للفوج 366، التابعة للاتحاد السوفيتي حينذك، والمصبوغ هو الآخر بالغالبية الأرمينية، أرادت أن تعمق احتلالها للأراضي الأذربيجانية في قراباغ الجبلية، وتستكمل مسيرة أوهامها في بناء دولة أرمينيا العظمى، وتزرع الرعب في قلوب الآذريين، فارتكبت مجزرة غير مسبوقة ضد السكان الآمنين العزل، وحق لها أن تصبح واحدة من أكثر الجرائم الدولية الإرهابية عنفًا ووحشية، وإبادة جماعية في القرن العشرين.
إن هذه المأساة الإنسانية الفريدة أو “خوجالي”، تحكي قصة مئات القتلى من الأطفال والشيوخ والنساء والرجال والشباب، وتسوية مدينة بالأرض.
فخلال ليلة 25 إلى 26 فبراير لعام 1992 قامت القوات العسكرية الأرمينية بمساعدة قوات المشاة من الفوج رقم 366 للاتحاد السوفيتى السابق، والذى يتألف معظمه من الأرمن، بالاستيلاء على المدينة.
وحاول سكان خوجالي الذين ظلوا في المدينة قبل تلك الليلة المأساوية أن يغادروا منازلهم مع بدء العدوان، آملين في الخروج إلى طرق آمنة تؤدى بهم لأقرب الأماكن المأهولة بإخوانهم الآذريين.
لكن خطتهم فشلت، وذلك بعد أن دمر الغزاة مدينتهم، وقاموا بتنفيذ المذبحة بوحشية فريدة من نوعها تجاه السكان المسالمين.
فسقط نتيجة لذلك العدوان، 613 مدنيًا، من بينهم 106 إمرأة، و63 من الأطفال و70 من العجائز، والباقين من الرجال والشباب.
كما جُرح 1000 شخص وتم أخذ 1275 رهينة من السكان، وحتى يومنا هذا، فمازال هناك 150 مفقودًا من أبناء خوجالى.
مذبحة بشهادة الشهود
وطبقًا للأخبار وروايات الشهود التي أظهرت بشاعة العدوان، تم الكشف عن مستوى غير مسبوق من الوحشية، بحيث شملت الأعمال الإجرامية من قبل القوات الأرمينية سلخ فروات الرؤوس وقطع رؤوس النساء الحوامل وبقر بطونهن، والتمثيل بجثثهن، ولم ينج من ذلك المصير السيء حتى الأطفال!
وعلى الرغم من محاولات أرمينيا التي لا تجدي لإخفاء حقائق مذبحة خوجالي، وبشاعة ما جرى على الأرض، إلا أن شهادات شهود العيان تقدم لنا سردًا كاملًا يوضح أن المدينة قد تعرضت لعملية عسكرية متعمدة من القوات الأرمينية، وذلك بهدف إبادة السكان المدنيين.
إن شهادة سيرج سركسيان رئيس أرمينيا السابق، والتي جرت عملية خوجالي تحت إدارته ، تعري الحقائق، وتكشف كثيرًا من المستور، وتوضح الكثير من الأمور، فقال في تصريح سابق ملؤه الفخر وهو موثق في {طوماس دى وول “الحديقة السوداء: أرمينيا وأذربيجان عبر السلم والحرب”، نيويورك ولندن: جامعة نيويورك للصحافة عام 2003، الصفحات من 169- 172}: “لقد كان الآذريون قبل خوجالي يظنون أن بوسعهم المزاح معنا، وكانوا يعتقدون أن الأرمن شعب لا يمكنه رفع أيديهم ضد السكان المدنيين؛ ولكننا كنا قادرين على تحطيم هذه الصورة ( النمطية)”.
كما جاء في صحيفة اللوموند الفرنسية، في 14 مارس عام 1992.. (تحولت أذربيجان مرة أخرى إلى مقبرة في الأسبوع الماضي، وإلى مكان للاجئين الجدد، وجرى سحب عشرات الجثث المشوهة إلى مشرحة مؤقتة تقع خلف المسجد.. لقد كانوا سكانًا بسطاء عاديين من الرجال والنساء والأطفال الآذريين في خوجالي.. تلك القرية الصغيرة الواقعة في إقليم قاراباغ الجبلي، والتي مزقها عدوان القوات الأرمينية في ليلة 25- 26 فبراير1992).
وأحد المتشددين النشطاء للمنظمة الأرمينية الإرهابية أصالة (Asala)، فازجن سسليان، الذى ارتبط اسمه بالعديد من الهجمات الدموية الإرهابية في مختلف أنحاء العالم، لم يخف عن الصحافة مسئوليته عن قتل الأطفال الآذريين في خوجالي.
وقد اعترف “سسليان” لاحقًا باعتباره بطلًا لحرب قاراباغ، وذلك فى كلمة لرئيس جمهورية أرمينيا روبرت كوتشاريان.
ومن كتاب المؤلف الأرمينى داوود خريان، الذى يستند إلى مأساة خوجالي، جاء فيه: “… في الثاني من مارس كانت مجموعة جافلان الأرمينية المكلفة بحرق الجثث قد جمعت أكثر من 100 جثة من الآذريين، وقامت بحرقها على مسافة كيلومتر واحد تقريبًا من غرب خوجالى…”.
وقد قام مراسل جريدة إزفستيا الروسية بوصف خوجالي كما يلى: “… بين الحين والآخر يجلبون جثث موتاهم من أصدقائهم الآذريين، وذلك لمبادلتهم بالرهائن الأحياء، ولن ترى مثل هذه الأشياء المروعة ولا حتى في الكوابيس.. فقد تم فقأ العيون، وقطع الأذان، كما يمكن مشاهدة الرؤوس المقطوعة وفروات الرأس المسلوخة.. وليس هناك نهاية لهذه المشاهد المروعة..”.
وتحت وطأة مثل هذه الحقائق والشهادات الدامية، بما فيها تلك التي صرح بها الرئيس الأرميني السابق سيرج سركسيان، فإن سياسة تشويه الحقائق والتمويه عليها التي تنتهجها يريفان حول خوجالي، وخلق الأوهام الكاذبة، قد انهارت كلها تمامًا مثل بيت العنكبوت.
انتهاكات متعددة
وطوال ما يقرب من 29 عامًا من الانتهاكات، استبان أن خوجالي لم تكن سوى حلقة في سلسلة طويلة من الانتهاكات ومحاولات طمس الحقائق التاريخية والهوية الثقافية لخوجالي وغيرها من مدن قراباغ الجبلية المحتلة.
حيث استمرت أعمال التخريب المتعمد للثقافة التراثية والمادية لأذربيجان بناءً على التعليمات المباشرة للدوائر الحاكمة الأرمنية.
فالتراث الثقافى الأذربيجانى، سواء في أرمينيا أو المدن المحتلة والذي ضم عشرات المتاحف، ومئات المدارس والمكتبات والمواقع الدينية ودور العبادة والجوامع، كان دومًا في مرمى التخريب الأرميني الممنهج.
فتم تحويل جامع “شوشا” إلى زريبة للخنازير، كعلامة من علامات الإذلال المتعمد لشعب أذربيجان وتراثه الثقافي والديني، وكذلك تم حرق النسخ النادرة من القرآن.
وليس من قبيل المصادفة أن تثبت اليونيسكو والإيسيسكو في قراراتها تدمیر وتخریب الآثار والمقدسات الإسلامیة التاریخیة والحضاریة في أراضي أذربیجان المحتلة نتیجة عدوان جمھوریة أرمینیا على جمھوریة أذربیجان.
الغريب أن هذا التاريخ الأسود من الاعتداءات العنصرية على كل ما يمت للثقافة الإسلامية، تأتي بعده دعوة أرمينية غير مسبوقة للتودد للعالم الإسلامي، ومحاولة توثيق التعاون مع الدول الإسلامية بدعوى الحفاظ على الأمن الإقليمي!
هكذا ببساطة ودون دفع الثمن، وبالتبرؤ من كل هذه الجرائم.. إنه الهراء بعينه!
أرمينيا التي أشعلت الحرب، واحتلت، وقتلت، ومثلت بالجثث، وفقأت الأعين وسلخت الجلود، ويتمت الأطفال، ورملت النساء، وتسببت في العاهات المستديمة لآلاف من الأذربيجانيين، فضلًا عن مئات الآلاف من المشردين، تتجاوز كل هذا راغبة في غسل يدها بكل هذه السهولة، ودون عناء يذكر من جرائمها في حق البشر والأرض والشجر.
فحتى أثناء حرب الـ44 يومًا التي حررت خلالها أذربيجان أراضيها المحتلة من قبضة المحتل الأرميني، والتي بدأت معاركها في 27 سبتمبر 2020، ارتكبت القيادة الفاشية لأرمينيا جريمة حرب أخرى، حيث قصفت بالصواريخ مدن غنجا ومينغاتشفير وأغدام، وترتر وبردا وغيرها من المدن السكنية، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى من الأبرياء، ما يبرز مجددًا الوجه الفاشي للقيادة الأرمينية.
وبعد كل هذا تتحدث نفس الدولة عن الأمن والسلم الإقليمي والدولي!
الثواب والعقاب
رفضت الذهنية الأرمينية أن تعي حقيقة الشعب الأذري، وتصريحات قياداته، وأنهم كانوا يعنون كل ما يقولون، وأن تحرير الأرض ليس مجرد حلم تتوارثه الأجيال، وإنما حق سيعود سلمًا كان أو حربًا.
وصمّت القيادة العنصرية الأرمينية آّذانها عن دعوات القيادة الأذربيجانية الصادقة في حل النزاع على الأرض المحتلة سلميًا من أجل تحقيق رفاهية ونهضة البلدين، فكان الثواب لمن صدق وأراد الحق والسلام، والعقاب لمن راوغ وراهن على قوة حلفائه وتجاهل قوة أصحاب الحق.
فالعيش على أوهام الماضي، وبقايا التاريخ وفوبيا الأجانب والأحلام الأسطورية لما يسمى بـ”أرمينيا العظمى”، والتطرف الشديد للفكرة القومية، جعل أرمينيا واحدة من أفقر البلدان المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق، وصارت تتمتع باقتصاد متدهور وعناصر سكانية متحللة.
وعلى العكس منها أذربيجان، فقد نجحت في بناء بلد متطور بصورة حيوية ومزدهرة، وتتمتع باقتصاد نام ومتطور، وفى صعود مضطرد، وتمتلك رؤية واضحة للمستقبل، كما جرت بها عمليات التحول السياسي والانتقال السلمي للسلطة بنجاح، وهذا ما جعل نتيجة الحرب الأخيرة طبيعية.
فدولة مثل أذربيجان لم يكن بوسعها الصبر على محتل أكثر من ٢٨ عامًا، فسريعًا حسمت قيادة أذربيجان أمرها، واستردت معظم أراضيها المحتلة بقوة جيشها الباسل من وطأة العدو الغاشم خلال 44 يومًا، ثم ركعت العدو وأرغمته على الاستسلام العسكري، وبعد ذلك تمكنت من استعادة باقي أراضيها بالتفاوض والسياسة.د
زر الذهاب إلى الأعلى