نقلت لكم / هبة صالح
مازلنا حديثنا عن الفتة الكبرى وتكمل مع الجزء الثاني
2 – موقعة الجمل
خرجت أم المؤمنين عائشة ومعها جمع من الصحابة (وجميعهم كانوا ممن بايع علي بن أبي طالب رضي الله عنه) كخليفة, ولكنهم رأوا أن القصاص من قتلة عثمان لابد أن يكون سريعا, وكان عددهم عند خروجهم من مكة تسعمائة، ثم بلغ عددهم بعد قليل ثلاثة آلاف في طريقهم إلى البصرة، واشتروا للسيدة عائشة رضي الله عنها جملاً، وركبت في الهودج فوق الجمل، وانطلقوا نحو البصرة.
وفي الطريق مر الجمع في مسيرهم ليلا بماء يقال له الحوأب ، فنبحتهم كلاب عنده فلما سمعت ذلك عائشة قالت : ما اسم هذا المكان ؟ قالوا : الحوأب فضربت بإحدى يديها على الأخرى وقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ما أظنني إلا راجعة ، قالوا : ولم ؟ قالت : سمعت رسول الله يقول لنسائه : ” ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب ” ، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته ، وقالت : ردوني ردوني أنا والله صاحبة ماء الحوأب
فجاء الناس وحلفوا لها أن هذا ليس ماء الحوأب وقد كذبوا, وأخبروها أنه لن يحدث شئ, وأنها ماخرجت إلا للإصلاح
وصلت أم المؤمنين ومن معها إلى البصرة, وعندما عَلِم عثمان بن حنيف عامل علي (رضي الله عنه) على البصرة بخروج السيدة عائشة ومعها طلحة والزبير وجمع من الصحابة إلى البصرة، أرسل يسألها عن سبب خروجها. فقالت: (إن الغوغاء من أهل الأمصار، ونُزّاع القبائل (قتلة عثمان)، غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة وبلا عذر، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزقوا الأعراض والجلود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم، ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين، ولا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا)
وكان على (رضي الله عنه) قد خرج بجيشه لمقابلة معاوية ومن معه في الشام, الذين رفضوا ان يبايعوا قبل الأخذ بثأر عثمان, ولكن عندما وصله خبر وصول أم المؤمنين وجمع من الصحابة إلى البصرة غير وجهته إلى البصرة
لما وصل علي البصرة، بعث القعقاع رسولاً إلى أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير يدعوهما إلى الألفة والجماعة ويعظم عليهما الفرقة والاختلاف.. فذهب القعقاع فبدأ بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقال: أي أماه ما أقدمك هذا البلد؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس. فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها فحضرا فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت إنما جئت للإصلاح بين الناس، فقالا: ونحن والله ما جئنا إلا لذلك”. فقال القعقاع: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فقال طلحة: بقتل علي قتلة عثمان، فإن ترك علي هذا الأمر يكون علي قد ترك القرآن (أي الحد).
فأخبرهم القعقاع أن الخليفة علي (رضي الله عنهحريص على الإصلاح بين الناس إلا أن اجتهاده أداه إلى التروي والتسكين حتى تستقر الأمور ، ثمَّ ينظر بعد ذلك في شأن القصاص من قتلة عثمان, فوافقوه على ذلك
فرجع إلى عليٍّ، فأخبره فأعجبه ذلك، واتفق القوم على الصلح، وكره ذلك مَنْ كرهه، ورضيه من رضيه، وأرسلت عائشة إلى عليٍّ تُعلمه، أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام عليٌّ في الناس خطيبًا، فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة.
ولكن قتلة عثمان السبئية باتوا في هم شديد وكرهوا أن يتم الصلح وأجمعوا أن يثيروا الحرب بين الطرفين، فاندسوا ليلاً في الصفوف وقسموا انفسهم إلى فرق ودخلوا إلى معسكرات طلحة وعلي، وهجموا على الناس بسيوفهم في كلا المعسكرين، فظن كلا الطرفين أن الطرف الآخر قد غدر به.. ونشب القتال.. وكان علي يقول في المعركة: ( ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة ).. ووقفت أم المؤمنين عائشة تبكي وهي ترى المسلمين القتلى في كل مكان، وطلحة والزبير يحاولان إيقاف الناس، وكان طلحة ينادي وهو على دابته وقد غشيه الناس فيقول: يا أيها الناس أتنصتون؟ فجعلوا يركبونه ولا ينصتون، فما زاد أن قال: أف أف فراش نار وذبان طمع.. ولم يتوقف القتال إلا بعد شروق الشمس.. وقال علي بعد هذه المأساة: ( اللهم إني أشهدك إني ما أردت هذا )..
واستشهد طلحة والزبير يوم الجمل، ومر علي على طلحة ورآه مقتولا فقال: ( عزيزٌ عليَّ أبا محمد أراك مجندلاً في التراب تحت نجوم السماء). وبكى.. ولما جاء قاتل الزبير يحمل سيف الزبير وأراد أن يدخل به على علي ظاناً أن علي سيفرح لذلك، أمسك علي السيف وبكى وقال: ( لطالما فرّج الزبير بهذا السيف الكرب عن رسول الله) وقال: ( بشِّر قاتل ابن صفية بالنار). -وابن صفية هو الزبير – ولم يأذن له أن يدخل عليه.. وصلّى علي على قتلى الطرفين..
وندمت عائشة رضي الله عنها على خروجها إلى البصرة وكانت بعد هذا كلما قرأت قوله تعالى: ” وقرن في بيوتكن ” تبكي حتى يبتل خمارها. وكانت كلما تذكرت موقعة الجمل تقول: (وددت أني كنت جلست كما جلس أصحابي وما سرت مسيري هذا).. وبعد انتهاء القتال اقترب علي من هودج عائشة ليطمئن عليها..وقد أخبره النبي بهذا الموقف، كما في الحديث: أن النبي نظر يوما إلى عائشة وعلي وابتسم، وقال لعلي:” لعله يكون يوما بينك وبينها أمر”، فقال علي: أنا يا رسول الله، إني والله لأشقاهم..فقال الرسول: “لا ولكن إن وقع هذا فأحسن إليها”.. فذهب علي إليها وقال: كيف حالك يا أماه؟!.. قالت: بخير.. فقال لها: غفر الله لكِ.. قالت: ولك.. ثم زودها بما تحتاج إليه وأرسل معها أخيها محمد بن أبي بكر في طريق عودتها من البصرة إلى مكة ومن ثم إلى المدينة..ومن ذلك اليوم لم تغادر بيتها أبداً ……..
زر الذهاب إلى الأعلى