قصة هجرة الرسول عليه السلام
داليا زردق
عُرف النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قبل بلوغه الأربعين من عمره وتكليفه بالرسالة السماويّة بمكارم الأخلاق والصدق الكامل في شتّى مجالات حياته، وكان مقدّرًا له أن يكون سيّد المرسلين وخاتمهم،
وقد جاء يدعوا بما دعا كل نبيّ أو رسولٍ قبله، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}،[١] وقد مرّت دعوته -صلّى الله عليه وسلّم- بمراحل مختلفة، فبعد أن نزل عليه أمين الوحي جبريل -عليه السلام- بدأ دعوته السريّة، والتي استمرّت لثلاث سنوات، قبل أن يأتي أمر الله في قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} ليجاهر دعواه وينشر ما أنزله الله رحمةً للعالمين، ويدور المقال حول قصة هجرة الرسول -عليه السلام-
أحوال المسلمين قبل الهجرة
سرد قصة هجرة الرسول -عليه السلام- يقتضي وجوبًا ذكر الأسباب التي دفعت النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- للهجرة إلى المدينة المنورة، فقد عاشَ المسلمونَ وكلّ من آمن بالنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حياةً قاسيةً في مكّة، وقد استغلّ المشركون أنّ أولّ من آمن برسول الله هم العبيد والضعفاء إضافةً للقليل من الأشدّاء، وكان كفار قريش يسومونهم سوء العذاب ويذيقونهم مرّ الحياة، و قد مرّ الرسول يومًا ورأى في الأرجاء آل ياسر يعذبّون ويُضربون، وروى جابر بن عبد الله عنه أنّه قال: “صبرًا آل ياسرٍ ، فإنَّ موعدَكم الجنةُ”،[٤] وسيدنا بلال الحبشي الذي وضعت الصخرة على ظهره تارةً، وعلى بطنه تارةً أخرى حتّى يرتدّ عن دين الإسلام، ولم يسلم حتّى رسول الله من أذى المشركين عامّة، ومن أبي لهبٍ وزجته على وجه الخصوص، وفيهما نزلت سورة المسد.[٥]
قصة هجرة الرسول عليه السلام
لما اشتدّ أذى المشركين على المسلمين أمرهم الله -سبحانه وتعالى- أن يهاجروا ليقيموا الدين لله في الأرض التي قدّرها الله لهم أن يقيموا عبادته فيها، فاختار الله تعالى لهم مدينة يثرب والتي تعرف بالمدينة المنورة لتكون دارًا لهم ومقصدًا لهجرتهم من مكة المكرّمة، قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: “رَأَيْتُ في المَنامِ أنِّي أُهاجِرُ مِن مَكَّةَ إلى أرْضٍ بها نَخْلٌ، فَذَهَبَ وهَلِي إلى أنَّها اليَمامَةُ أوْ هَجَرُ، فإذا هي المَدِينَةُ يَثْرِبُ”،[٦] وبعد أن أذن الله لرسوله بالهجرة قصد النبيّ دار أبي بكرٍ متخفيًا عن عيون المشركين في وقت الظهيرة، وأخبره بذلك، فاستأذنه أبو بكر -رضي الله عنه- لمرافقته، وأخبر النبيّ عليًّا ليتأخر عنهم بالقدوم إلى المدينة ليؤدي عنه أمانات النّاس، وليضرب عرض الحائط بخطّة المشركين لقتله بمبيته بفراشه.[٧]
هكذا بدأت قصة هجرة الرسول -عليه السلام-، حيث غادر برفقة أبي بكرٍ في الخفاء قبل طلوع الفجر، وكان النبيّ فطنًا بفطرته التي جبله الله عليها، فسلك طريقًا غير الطريق التي تظنّه قريشٌ أنّه سلكه، قاصدًا الجبل المعروف بجبل ثور، وبعد أن أدرك المشركون أنّ عليّ بن أبي طالب قد خدعهم بمبيته في مهجع النبيّ الشريف، أسروه لديهم لثلاثة أيّام، وانطلقوا فور بلوغهم خبر هجرة النبيّ لمطاردته ومحاولة قتله، قبل أن يبلغ مسعاه، وقد وضعوا لقاء ذلك عديد الجوائز من المال والذهب ورصدهم مئة ناقة في سبيل ذلك وغيرها من المغريات، فخرجوا يبحثون ويفتشون الجبال والطرقات، حتّى بلغوا غار ثور والذي كان فيه النبيّ -عليه الصلاة والسلام- وصاحبه الصدّيق -رضي الله عنه-.[٧]
ولمّا بلغ المشركون غار ثور أعمى الله أبصارهم وأغشى أفئدتهم، وقد أثار وصولهم إلى الغار قلق سيّدنا أبو بكر الصدّيق وخوفه على النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وقد روى أبو بكر في الصحيح من الحديث عما جرى في ذلك الحين، فقال: “قُلتُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وأَنَا في الغَارِ: لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا”،[٨] فمكثوا في الغار ثلاث ليالٍ، قبل أن يخرجوا ليستكملوا طريقهم إلى المدينة بعد أن هدأت الأرجاء من فوضى المشركين، وبعد طريقٍ طويلة نالوا بها من المصائب والشدائد ما نالوا، فصبروا وصدقوا الله قولًا وعملًا، فجزاهم الله بما صبروا أن أنهى قصة هجرة الرسول -عليه السلام- بوصوله وصاحبه إلى المدينة المنورة بالخير والسلامة.[٧]
أبو بكر الصديق والهجرة
لا يجتمع في قلب مؤمنٍ حبّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وبغض أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه- في آنٍ واحد، وذلك لما له من مواقف عظيمةٍ في الدعوة الإسلاميّة، وفي قصّة هجرة الرسول -عليه السلام-، فقد كان -رضي الله عنه- على أتمّ الاستعداد للهجرة مع النبيّ من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة، وقد روت أسماء بنت أبي بكر في الحسن من الحديث: “لمَّا خرجَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ وخرجَ معهُ أبو بكرٍ احتملَ أبو بكرٍ مالَهُ كلَّهُ معهُ خمسةَ آلافِ درهمٍ أو ستَّةَ آلافِ درهمٍ قالت وانطلقَ بها معهُ..”،[٩] وقد جاء في الحديث المطوّل عن الهجرة عن بكاء أبي بكرٍ في حبّه وحرصه على النبيّ في الغار لمّا أدركهم المشركون، قال رسول الله مخاطبًا أبى بكر: “ما يُبكيكَ؟ قال: أمَا واللهِ ما على نفسي أبكي ولكنْ أبكي عليك”.[١٠][١١]
استقبال أهل المدينة للرسول
بعد وصول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى المدينة استبشر قدومه أهل المدينة من المهاجرين والأنصار، وقد ورد في بعض كتب الأثر الحديث عن الأنشودة التي أنشدها أهل المدينة عند قدوم النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وهو ما رواه عبيد الله بن عائشة في الحديث المعضل: “لمَّا دخلَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- المدينةَ جعلَ الولائدُ يقُلنَ طلعَ البدرُ علينا من ثَنيَّةِ الوداعِ* وجبَ الشُّكرُ علينا ما دعا للَّهِ داعٍ”،[١٢] والحديث إسناده معضل لا يصحّ الأخذ به، ولم يرد في الصحيحين أو الحسن والمرسل أبدًا ذكر هذه الحادثة عند قدوم النبيّ إلى المدينة، وهذا من الأمور الواجب التنبيه بها، وذلك لنقل السيرة النبويّة الصحيحة كما وردت من الرجال الثّقات.