بقلم دكتور سعد
الثبات ومواجهة المطامع ، موضوع مقالنا اليوم ، فلما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام عاداه قومه إلا فئة قليلة استجابت لدعوته، فما كان من قريش إلا أن نثرت كنانتها ، وأطلقت على هؤلاء المؤمنين كل سهم من سهامها ، فما زادهم كل هذا إلا ثقة وتجلدا، وقالوا: { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}(الأحزاب) ولم يزدهم هذا البلاء والاضطهاد في الدين إلا متانة في عقيدتهم وحمية لدينهم ومقتا للكفر وأهله ، وإشعالا لعاطفتهم وتمحيصا لنفوسهم ؛ فأصبحوا كالتِّبر المسبوك واللجين الصافي ، وخرجوا من كل محنة وبلاء خروج السيف بعد الجلاء.
هذا والرسول يغذي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ، ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدنٍ ، وخشوع قلبٍ وخضوع جسمٍ وحضور عقلٍ ، فيزدادون كل يوم سموَ روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحررا من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعا إلى رب الأرض والسموات.
ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة ، ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم ، ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخا في الدين وعزوفا عن الشهوات وتفانيا في سبيل المرضاة ، وحنينا إلى الجنات حتى هان عليهم التخلي عن الدنيا ، وخرج حظ الشيطان من نفوسهم ، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم ، وحققوا أعلى درجات الإيمان.
لقد كان هذا الإيمان حارسا لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته. يملك نفسه امام المطامع بأنواعها في جميع الأحوال والأوقات في الخلوة والوحدة حيث لا يراه إلا الله تعالى ، وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحدا.
ولقد سجل التاريخ الإسلامي بأحرف من نور مواقف هؤلاء في عفتهم وثباتهم أما المطامع الدنيوية ، حدث الطبري رحمه الله عن فتح المدائن وغنائم المسلمين فيها فقال: أقبل رجل بحُق (أي وعاء) معه فدفعه إلى صاحب الأقباض ، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط. ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه ، فقالوا: هل أخذت منه شيئا؟ قفال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به ، فعرفوا أن للرجل شأنا ، فقالوا من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس.
ولما أرسل سعد بن أبي وقاص شيئا من الكنوز التي غنموها في القادسية إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظر إليها وقال: إن قوما أدوا هذا لأمناء.
فقال له علي بن أبي طالب: إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت.
وأعجب من ذلك ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية أن عمر رضي الله عنه لما نظر إلى ثياب كسرى وبعض كنوزه قال: اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي.
ثم بكى حتى رحمه من كان عنده. ثم قال لعبد الرحمن بن عوف: أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي.
ثبات حتى في الشدائد
أما ثبات كعب بن مالك رضي الله عنه أمام المطامع الدنيوية والإغراءات فحديثه قد سارت به الركبان ، ولنستمع إليه رضي الله عنه يحدث عن ذلك حين تخلف عن غزوة تبوك فيقول: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه .
قال : فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ، ولا يكلمنى أحد ، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُسلِّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي : هل حرّك شفتيه بِرَدِّ السلام أم لا ؟ ثم أُصلى قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ ، وإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة – وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ – فسلّمت عليه ، فو الله ما ردّ عليّ السلام .
فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله ؟
قال : فسكت .
فعدت فناشدته .
فسكت .
فعدت فناشدته .
فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي ، وتولّيت حتى تسوّرت الجدار ، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيّ من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدلّ على كعب بن مالك ؟
قال : فقلت حين قرأتها : وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور ، فسجرته بها . (رواه البخاري ومسلم).
لقد نظر إلى هذا العرض والإغراء على أنه فتنة يُراد له أن يترك دينه ، فعاجلها بالحل العاجل حتى لا يكون له طريق رجعة إليها عاجلها بالتنّور فأشعله بها.
من رسول الله تعلموا الثبات
لقد تعلم الصحابة هذا الثبات العجيب من نبيهم صلى الله عليه وسلم ، قال أبو جهل في ملأ من قريش لقد انتشر علينا أمر محمد فلو التمستم عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة: لقد سمعت السحر والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي إن كان كذلك ، فأتاه فقال له: يا محمد أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا لك ألويتنا وكنت رأسنا ما بقيت ، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي أبيات قريش شئت ، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم ، فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم { حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)} حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} فأمسك عتبة على فيه وانشده الرحم ليكف عنه.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرَض عليه الملك والسلطان الجاه والمال ، يظنونه كأحدهم يسيل لعابه أمام الإغراءات وما يعرفون أنه رسول الله الذي لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره ما ترك إبلاغ رسالة ربه حتى ينصره الله أو يموت ثابتا على المبدأ مجاهدا في سبيل الله تعالى.
إننا بحاجة إلى جيل يؤمن بالله حق الإيمان يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا تستهويهم الشهوات ولا تسيطر عليهم المطامع ، فلا يتكسبون من حرام ولا يتقاضون رشوة ولا يسرقون ولا يخونون ، جيل جعل الله تعالى الدنيا في يده ولم يجعلها في قلبه.