كان مولده نورا أضاء الدنيا
كان مولده نورا أضاء الدنيا
بقلم / محمـــــد الدكـــــرورى
إن عبد المطلب لما قال لولده الحرث ذد عني ، أي امنع عني حتى أحفر، وعلم أنه لا قدرة له على ذلك نذر إن رزق عشرة من الولد الذكور يمنعونه ممن يتعالى عليه ليذبحن أحدهم عند الكعبة ، وقيل إن سبب ذلك أن عدي بن نوفل بن عبد مناف أبا المطعم قال له: يا عبد المطلب تستطيل علينا وأنت فذّ لا ولد لك: أي متعدد، بل لك ولدا واحدا ولا مال لك، وما أنت إلا واحد من قومك، فقال له عبد المطلب: أتقول هذا، وإنما كان نوفل أبوك في حجر هاشم: أي لأن هاشما كان خلف على أم نوفل وهو صغير، فقال له عدي: وأنت أيضا قد كنت في يثرب عند غير أبيك كنت عند أخوالك من بني النجار، حتى ردك عمك المطلب، فقال له عبد المطلب: أو بالقلة تعيرني، فللّه علي النذر لئن آتاني الله عشرة من الأولاد الذكور لأنحرن أحدهم عند الكعبة.
وقيل إن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله له حفر زمزم، فعن معاوية رضي الله عنه أن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر الله إن سهل الأمر بها أن ينحر بعض ولده، فلما صاروا عشرة: أي وحفر زمزم أمر في اليوم بالوفاء بنذره: أي قيل له قرّب أحد أولادك: أي بعد أن نسي ذلك وقد قيل له قبل ذلك: أوف بنذرك، فذبح كبشا أطعمه الفقراء ثم قيل له في النوم: قرب ما هو أكبر من ذلك فذبح ثورا، ثم قيل له في النوم قرب ما هو أكبر من ذلك فذبح جملا، ثم قيل له في النوم قرب ما هو أكبر من ذلك فقال: وما هو أكبر من ذلك؟ فقيل له قرب أحد أولادك الذي نذرت ذبحه، فضرب القداح على أولاده بعد أن جمعهم وأخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء وأطاعوه.
ويقال إن أول من أطاعه عبد الله وكتب اسم كل واحد على قدح، ودفعت تلك القداح للسادن والقائم بخدمة هبل، وضرب تلك القداح، فخرجت على عبد الله: أي وكان أصغر ولده، وأحبهم إليه مع ما تقدم من أوصافه، فأخذه عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل به على إساف ونائلة وألقاه على الأرض، ووضع رجله على عنقه، فجذب العباس عبد الله من تحت رجل أبيه حتى أثر في وجهه شجة لم تزل في وجه عبد الله إلى أن مات .
وكان عبد الله بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه، ولما نجا من الذبح وفداه عبد المطلب بمائة من الإبل، زوجه من أشرف نساء مكة نسبًا، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، ولم يلبث أبوه أن توفي بعد أن حملت به آمنة، ودُفن بالمدينة عند أخواله بني (عدي بن النجار)، فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام فأدركته منيته بالمدينة وهو راجع، وترك هذه النسمة المباركة، وكأن القدر يقول له: قد انتهت مهمتك في الحياة وهذا الجنين الطاهر يتولى الله سبحانه وتعالى بحكمته ورحمته تربيته وتأديبه وإعداده لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور.
ولم يكن زواج عبد الله من آمنة هو بداية أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان أول بدء أمرك: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام “. ودعوة نبى الله إبراهيم عليه السلام هي قوله: ( رَبَّنَا وَابعَث فِيهِم رَسُولاً مِّنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَيُزَكِّيهِم إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) سورة البقرة .
وبشرى نبى الله عيسى كما أشار إليه قول الحق عز وجل حاكيا عن المسيح عليه السلام (وَإِذ قَالَ عِيسَى ابنُ مَريَمَ يَا بَنِي إِسرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُم مّصَدِّقًا لِّمَا بَينَ يَدَيَّ مِنَ التَّورَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ, يَأتِي مِن بَعدِي اسمُهُ أَحمَدُ) سورة الصف.
وقوله صلى الله عليه وسلم ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام قال ابن رجب: ” وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزالت به ظلمة الشرك منها، وكما قال الله عز وجل ( يَا أَهلَ الكِتَابِ قَد جَاءَكُم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُم كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُم تُخفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ, قَد جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مٌّبِينٌ ` يَهدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخرِجُهُم مِّنَ الظٌّلُمَاتِ إلى النٌّورِ بِإِذنِهِ وَيَهدِيهِم إلى صِرَاطٍ, مٌّستَقِيمٍ,) سورة المائدة.
وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى بن مريم بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها، وفى هذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ” لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ” ” وهم بالشام ” رواه البخارى
وقيل خرج عبد المطلب ومعه ولده عبد الله، وكان أحسن رجل في قريش خُلقا، وخلْقا، وكان نور النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بينا في وجهه وفي رواية أنه كان أحسن رجل رئاء بكسر الراء وبضمها ثم همزة مفتوحة: منظرا في قريش ، وفي رواية أنه كان أكمل بني أبيه، وأحسنهم وأعفهم، وأحبهم إلى قريش، وقد هدى الله تعالى والده فسماه بأحب الأسماء إلى الله تعالى.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال احفر طيبة، فقلت: وما طيبة؟ فذهب وتركني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال احفر برة، فقلت: وما برة فذهب وتركني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني وقال احفر المضنونة، فقلت: وما المضنونة؟ فذهب وتركني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال احفر زمزم، فقلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف، ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل ، وقوله لا تنزف: أي لا يفرغ ماؤها، ولا يلحق قعرها.
وفيه أنه ذكر أنه وقع فيها عبد حبشي فمات بها وانتفخ فنزحت من أجله، ووجدوا قعرها فوجدوا ماءها يفور من ثلاثة أعين، أقواها وأكثرها التي من ناحية الحجر الأسود ، وقوله ولا تذم ، أي لا توجد قليلة الماء، من قولهم: بئر ذمة أي قليلة الماء قيل وليس المراد أنه لا يذمها أحد، لأن خالد بن عبد الله القسري أمير العراق من جهة الوليد بن عبد الملك ذمها وسماها أم جعلان، واحتفر بئرا خارج مكة باسم الوليد بن عبد الملك، وجعل يفضلها على زمزم ويحمل الناس على التبرك بها.
وفيه أن هذا جراءة منه على الله تعالى وقلة حياء منه، وهو الذي كان يعلن ويفصح بلعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على المنبر، فلا عبرة بذمه ، وقيل لزمزم طيبة لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم، وقيل لها برة لأنها فاضت للأبرار، وقيل لها المضنونة لأنها ضن بها على غير المؤمنين، فلا يتضلع منها منافق، وقد جاء في رواية ” يقول الله تعالى ضننت بها على الناس إلا عليك ” ولعل المراد إلا على أتباعك، فيكون بمعنى ما قبله.
وفي رواية أنه قيل لعبد المطلب احفر زمزم، ولم يذكر له علامتها فجاء إلى قومه وقال لهم: إني قد أمرت أن أحفر زمزم، قالوا: فهل بين لك أين هي؟ قال لا، قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يكن حقا من الله تعالى بين لك، وإن يكن من الشيطان فلن يعود إليك، فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتاه فقال احفر زمزم إنك إن حفرتها لن تندم، وهي ميراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، فقال عبد المطلب: أين هي؟ فقال: هي بين الفرث والدم، عند قرية النمل حيث ينقر الغراب الأعصم غدا: أي والأعصم، قيل أحمر المنقار والرجلين، وقيل أبيض البطن .
وقيل الأعصم أبيض الجناحين، وقيل أبيض إحدى الرجلين، فلما كان الغد ذهب عبد المطلب وولده الحارث ليس له ولد غيره، فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقرعندها بين الفرث والدم: أي في محلهما وذلك بين إساف ونائلة وهم صنمين فى قريش وقيل أن قريشا كانت تذبح عندهما ذبائحها: أي التي كانت تتقرب بها، وهذا يبعد ما جاء في رواية أنه لما قام بحفرها رأى ما رسم له من قرية النمل ونقرة الغراب، ولم ير الفرث والدم فبينما هو كذلك ندت بقرة من ذابحها فلم يدركها حتى دخلت المسجد فنحرها في الموضع الذي رسم له.
وقد يقال لا يبعد لأنه يجوز أن يكون فهم أن يكون الفرث والدم موجودين بالفعل فلا يلزم من كون المحل المذكور محلهما وجودهما فيه في ذلك الوقت، فلم يكتف بنقرة الغراب في محلهما، فأرسل الله له تلك البقرة ليرى الأمر عيانا وفى هذه العلامات الثلاث حكمة لا بأس بها، ولعل إسافا ونائلة نقلا بعد ذلك إلى الصفا والمروة بعد أن نقلهما عمرو بن لحي من جوف الكعبة إلى المحل المذكور .
وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما: أي ومن ثم لما جاء الاسلام وكسرت الأصنام، كره المسلمون الطواف أي السعي بينهما، وقالوا يا رسول الله هذا كان شعارنا في الجاهلية لأجل التمسح بالصنمين، فأنزل الله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) ويقال إن بقرة نحرت بالحزورة بوزن قسورة فانفلتت ودخلت المسجد في موضع زمزم فوقعت مكانها، فاحتمل لحمها، فأقبل غراب أعصم فوقع في الفرث فليتأمل الجمع.
وعند ذلك جاء عبد المطلب بالمعول وقام ليحفر، فقامت إليه قريش، فقالوا له: والله لا نتركك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما فقال عبد المطلب لولده الحرث ذد عني: أي امنع عني حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به، فلما رأوه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطي: أي البناء، فكبر وقال هذا طي إسماعيل عليه السلام: أي بناؤه، فعرفت قريش أنه أصاب حاجته، فقاموا إليه وقالوا والله يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك، فقال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، فقالوا نخاصمك فيها .
فقال: اجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم وكانت بأعالي الشام ، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، وكان إذ ذاك ما بين الحجاز والشام مفازات لا ماء بها، فلما كان عبد المطلب ببعض تلك المفاوز فني ماؤه وماء أصحابه، فظمئوا ظمأ شديدا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستقوا ممن معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فقال عبد المطلب لأصحابه ما ترون؟ قالوا، ما رأينا إلا تبع لرأيك، فقال: إني أرى أن يحفر كل أحد منكم حفيرة يكون فيها إلى أن يموت فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا .
فضيعة رجل واحد ، أي يترك بلا مواراة أيسر من ضيعة ركب جميعا، فقالوا نعم ما أمرت به فحفر كل حفيرة لنفسه ثم قعدوا ينتظرون الموت، ثم قال عبد المطلب لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا إلى الموت لعجز، فلنضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا، فانطلقوا، كل ذلك وقومهم ينظرون إليهم ما هم فاعلون فتقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه وملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا، فجاؤوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا لعبد المطلب قد والله قضى لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا .
فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، فلما جاء وأخذ في الحفر وجد فيها الغزالتين من الذهب اللتين دفنتهما جرهم، ووجد فيها أسيافا وأدراعا، فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك، فقال: لا، ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم ، نضرب عليها بالقداح قالوا: كيف تصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له، قالوا أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوها لصاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل: أي وجعلوا الغزالتين قسما والأسياف والأدراع قسما آخر، وقام عبد المطلب يدعو ربه بشعر مذكور في الأمتاع، فضرب صاحب القداح، فخرج الأصفران على الغزالتين، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع، وتخلف قدحا قريش، فضرب عبد المطلب الأسياف بابا الكعبة، وضرب في الباب الغزالتين، فكان أول ذهب حليت به الكعبة ذلك.