لماذا عرض لوط عليه السلام بناته على قومه ، وهم يعملون الفواحش ؟ وما المراد بالنهي عن التفاتهم ، لما أمرتهم الملائكة بالخروج عن القرية ؟
الجواب
الحمد لله.
أولًا:
أما قول لوط عليه السلام : يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هود/78 .
فإن معناه: أن لوطًا عليه السلام أراد أن يصرف قومه إلى الأفضل، فعرض بناته عليهم للزواج بهن، وقد اختلف العلماء في المراد ببناته:
1- فذكر بعضهم أن المقصود نساء أمته .
2- وذكر بعضهم أن المراد بناته الصُّلْبيات .
انظر: “تفسير الطبري”(12/ 502)، وقال مكي بن أبي طالب : ” هؤلاء النساء هن أحل لكم، يريد نساءهم ، والنبي أب لأمته.
” قال عكرمة: إنما قال لهم هذا لينصرفوا، ولم يعرض بأحد. وقيل: عرض التزويج عليهم من بناته إن أسلموا ” انتهى من “الهداية”(5/ 3443).
وقال المعلمي اليماني: ” وقوله: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: 78] أراد التَّزويج والوَطْء المباح، وإلَّا فلا معنى لتغيير المنكر [ودعوتهم إلى منكر آخر]! ” انتهى من “الآثار”(6/ 215).
ثانيًا:
وقوله تعالى: قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ هود/ 81 .
فإن العلماء اختلفوا : هل أُمر لوط عليه السلام بأن يأخذ امرأته معه أم لا ؟
1- فذهب بعضهم إلى القول بأن المعنى: فأسر بأهلك إلا امرأتك، وعلى أن لوطا أمر أن يسري بأهله سوى زوجته، فإنه نُهي أن يسري بها، وأمر بتخليفها مع قومها.
2- وذهب بعضهم إلى القول بأن المعنى: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، فإن لوطًا قد أخرجها معه، وإنه نُهي لوط ومن معه ، ممن أسرى معه ، أن يلتفت سوى زوجته، وأنها التفتت فهلكت لذلك.
انظر: “الطبري”(12/ 514 – 515).
قال ابن كثير: ” يقول تعالى مخبرا عن نبيه لوط، عليه السلام: إن لوطا توعدهم بقوله: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ، أي: لكنت نكلت بكم ، وفعلت بكم الأفاعيل ، من العذاب والنقمة وإحلال البأس بكم ، بنفسي وعشيرتي، .. فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رسل الله إليه، وبشروه أنهم لا وصول لهم إليه ولا خلوص قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ، وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل، وأن يتبع أدبارهم، أي: يكون سَاقةً لأهله، ولا يلتفت منكم أحد أي: إذا سمعت ما نزل بهم، ولا تهولنكم تلك الأصوات المزعجة، ولكن استمروا ذاهبين كما أنتم .
إلا امرأتك قال الأكثرون: هو استثناء من المثبت ، وهو قوله: فأسر بأهلك ؛ تقديره إلا امرأتك ، وكذلك قرأها ابن مسعود ، ونصب هؤلاء امرأتك؛ لأنه من مثبت، فوجب نصبه عندهم.
وقال آخرون من القراء والنحاة: هو استثناء من قوله: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فجوزوا الرفع والنصب .
وذكر هؤلاء وغيرهم من الإسرائيليات أنها خرجت معهم، وأنها لما سمعت الوجْبَة [= سقوط القرية، أو سقوط العذاب عليها] ، التفتت وقالت: واقوماه. فجاءها حجر من السماء فقتلها .
ثم قربوا له هلاك قومه تبشيرا له؛ لأنه قال لهم: “أهلكوهم الساعة”، فقالوا: إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب .
هذا وقوم لوط وقوف على الباب ، وعكوف ؛ قد جاءوا يُهرعون إليه من كل جانب، ولوط واقف على الباب ، يدافعهم ، ويردعهم ، وينهاهم عما هم فيه، وهم لا يقبلون منه، بل يتوعدونه !!
فعند ذلك خرج عليهم جبريل، عليه السلام، فضرب وجوههم بجناحه، فطمس أعينهم، فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق، كما قال تعالى: ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر [القمر:37 -39] ” انتهى من “التفسير”(4/ 338)، بتصرف .
ثالثًا:
وأما قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ العنكبوت/31-35
وأما قوله تعالى : فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ هود/74-83 .
فواضح أن الخطاب في أول الآيات متعلق بمجادلة إبراهيم عليه السلام للملائكة، وفي باقي الآيات ذكرٌ لقصة لوط عليه السلام .
يقول الشيخ السعدي في تأويل الآيات: ” فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ الذي أصابه من خيفة أضيافه وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى بالولد ؛ التفت حينئذ، إلى مجادلة الرسل في إهلاك قوم لوط، وقال لهم: إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته.
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أي: ذو خلق حسن وسعة صدر، وعدم غضب، عند جهل الجاهلين.
أَوَّاهٌ أي: متضرع إلى الله في جميع الأوقات، مُنِيبٌ أي: رجَّاع إلى الله بمعرفته ومحبته، والإقبال عليه، والإعراض عمن سواه، فلذلك كان يجادل عمن حَتَم الله بهلاكهم.
فقيل له: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا الجدالِ ؛ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بهلاكهم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ؛ فلا فائدة في جدالك.
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا أي: الملائكة الذين صدروا من إبراهيم لما أتوا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ أي: شق عليه مجيئهم، وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي: شديد حرج، لأنه علم أن قومه لا يتركونهم، لأنهم في صور شباب، جُرْد، مُرْد، في غاية الكمال والجمال .
ولهذا وقع ما خطر بباله ؛ فجاءه قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أي: يسرعون ويبادرون، يريدون أضيافه بالفاحشة، التي كانوا يعملونها، ولهذا قال: وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السيئاتِ أي: الفاحشة التي ما سبقهم عليها أحد من العالمين.
قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ من أضيافي .
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي: إما أن تراعوا تقوى الله، وإما أن تراعوني في ضيفي، ولا تخزون عندهم.
أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ فينهاكم، ويزجركم، وهذا دليل على مروجهم وانحلالهم، من الخير والمروءة.
فـ قَالُوا له: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ أي: لا نريد إلا الرجال، ولا لنا رغبة في النساء.
فاشتد قلق لوط عليه الصلاة والسلام، و قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ كقبيلة مانعة، لمنعتكم.
وهذا بحسب الأسباب المحسوسة، وإلا فإنه يأوي إلى أقوى الأركان وهو الله، الذي لا يقوم لقوته أحد، ولهذا لما بلغ الأمر منتهاه واشتد الكرب.
قَالُوا له: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ أي: أخبروه بحالهم ليطمئن قلبه، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بسوء.
ثم قال جبريل بجناحه، فطمس أعينهم، فانطلقوا يتوعدون لوطا بمجيء الصبح، وأمر الملائكة لوطا، أن يسري بأهله بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي: بجانب منه ، قبل الفجر بكثير، ليتمكنوا من البعد عن قريتهم.
وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي: بادروا بالخروج، وليكن همكم النجاة ، ولا تلتفتوا إلى ما وراءكم.
إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا من العذاب مَا أَصَابَهُمُ لأنها تشارك قومها في الإثم، فتدلهم على أضياف لوط، إذا نزل به أضياف.
إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ فكأن لوطا، استعجل ذلك، فقيل له: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ”
انتهى من ” التفسير”(386) .
والله أعلم
زر الذهاب إلى الأعلى