أدب

فن الإلهاء وإلهاء الفن

 

بقلم / محمد صلاح راجح

’’ أنا أشعر أن الحياة تجربة محبطة ومؤلمة وليس لها معنى‘‘.
يقول “وودي آلن” أن كل الفنون والأعمال الخالدة واللحظات السعيدة هي مجرد إلهاء عن مواجهة (حقيقة الحياة)، وهي فناء كل شيء، موت كل شيء، اندثار كل شيء. وبنفس المنطق كان هناك مشهد خالدًا في الفيلم الفلسفي The Sunset Limited حين قال البروفيسور ’’ لا بُد أن صرخات وأنين المعذبين هي أعذب الأصوات على أذن الإله‘‘. هناك مقولة أخرى لوودي آلن: ’’ هذا بالضبط شعوري نحو الحياة، إنها ممتلئة بالعُزلة والبؤس والعذاب والتعاسة. وتنتهي بسرعة البرق‘‘.
أحايين كثيرة تسحقنا هذه الحقيقة وتجعلنا لا نشعر بالسعادة أبدًا، حتى وإن كان البعض غير مدرك لهذه الحقيقة، ولا يفهم ما يعتمل في روحه من ألم.
لعنة المعرفة تجعل من الحياة فترات طويلة ممتدة من إدراك لهذه الحقيقة، أما الجزء الصغير جدًا منها، والذي أسميه (لحظات سعيدة) أو (انتصارات هزيلة) فهو مجرد انشغال ناجع عن تلك الحقيقة المُحبِطة.
إذن إجادة الإلهاء عن هذه الحقيقة التي لا مفر منها، هي السبيل الوحيد للعيش والاستمرار والأمل في قنص السعادة قبل أن نرحل، وهل هناك إلهاء أعظم من الفن؟ نحن دائمًا بحاجة إلى فهم أنفسنا، ولا يعيننا على هذا سوى عمل فني عظيم، ربما وجدت ذاتك، أو فهمت ما الذي يعتمل في روحك ولا تعرف كيف تبوح به أو تدرك كنهه، حين تقرأ رواية رائعة أو تشاهد فيلمًا عظيمًا أو ترى لوحة فنية أو تستمع إلى الموسيقى، الفن هو أعظم ما في الوجود، فإذا كانت الفلسفة تبحث عن فهم الحقيقة وماهية الوجود، والعلم يبحث عن الأسباب والحل والإثباتات القابلة للتكرار، ربما سيصيبك الملل والصداع والتخبط، وستأوي حتمًا إلى ما يمتعك ويكلِّم حواسك ويشحذ شغفك.
في حفل توقيع روايتي الأخيرة، سألني قارئ شاب عن جدوى قراءة رواية، وهو سؤال في باطنه يحوي سؤالًا أكبر عن جدوى الفن، أجبته بأننا نلجأ إلى الفن لنعرف أنفسنا أكثر، ونعيش حيوات لم نكن لنعيشها أبدًا، نسافر في ألف زمن وإلى ألف مكان ونكتسب ألف خبرة، نختبر ألف شعور، لكنني تساءلت بيني وبين نفسي “ماذا لو أخبرته أن جدوى الفن هو أن يلهيك عن الاندثار!”. وهنا تكمن عظمة الفن الحقيقي، إنه لا يلهيك فقط إن كنت تدرك الحقيقة، والإدراك هنا غير المعرفة، إنما يلهيك عن الإدراك نفسه لهذه الحقيقة، ويتيح لك أن تحلم وتسعد وتعيش منتظرًا شمسًا أخرى ليوم آخر وأن تحلمُ من جديد، وبالطبع إن متلقي الفن الحقيقي سوف يحيا كفنان، فحين تحاول رسم ملامح حبيبتك في خيالك من الذاكرة، هو نوع آخر من الفن! أحلامك وطموحاتك وشغفك وسعيك، هو نوع خاص جدًا من الفن، إننا نتوقف كل لحظة لنتزود من الفن ما يجعلنا نحيا به.
هنا تبرز نقطة هامة، ماذا لو كان الفن مغشوشًا؟ إن ما يقدمونه لنا لا يمكن أن يكون فنًا، إنهم هناك يقدمون لنا عبثًا، ويرتقون على أكتافنا، قلعة مدعين الفن عالية وراسخة ومتعالية، إنهم بهذا يلهون الفن عن أن يكون فنًا! سأقول لك أن هذا شيء طبيعي، بل وحتمي، لأن حتى هؤلاء يساعدون متلقيهم على الإلهاء، وبديهي أن الحقيقي والأصلي يكون نادرٌ، لا يعرفه ويقدره إلا الحقيقيين. اللعبة هنا تُسمى الإلهاء، ولا شيء غيره، ومن بعدها ينشب الاختلاف والخلاف والأفكار والمُحاجَّات والمقارنات، ألا تجد في كل هذا إلهاءً؟ هكذا تكون فهمتني.
ختامًا فالخلاصة جاءت على لسان بريخت: ’’ والذي ما زال يضحك؛ لم يسمع بعد بالنبأ الرهيب‘‘. ونحن نريد أن نظل نضحك، نحيا، نستمتع. نصيحتي الوحيدة، وعليك أن تنفذها على نحو جيد، دع الفن يلهيك،عن حب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى