تعرف على الله فى الرخاء
تعرف على الله فى الرخاء
بقلم / محمــــد الدكــــرورى
إن من الظُلمِ هو الاعتداءُ على حقوقِ الآخرينَ وإيذاؤُهم في دمائِهم وأموالهم وأعراضهم، حيث قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ” كلُ المسلم على المسلم حرام دمُه ومالُه وعرضُه ” رواه مسلم ، وأيضا من الظلمِ المماطلةُ بدينٍ ، أو قرض، وذلك بعدمِ وفائهِ أو أدائهِ إلى صاحبه، وهو يَقدرُ على ذلك، فقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم “مَطلُ الغَنِيِّ ظُلمٌ ” رواه البخاري ومسلم.
والمعلوم في عقيدتنا الإسلامية أن أعمال العباد على ثلاثة أقسام ، قسم لا يغفر الله منه شيئا؛ وهو الشرك بالله، وقسم مُعلّق على مشيئة الله ، إن شاء غفر وإن شاء عذب، وهو حقوقه عز وجل ، وقسم لا بد فيه من القصاص، وهو حقوق العباد، أي: ظلم العباد بعضهم بعضا، فهذا القصاص فيه لا محالة؛ فحقوق الآخرين التي في ذمتك: المادية منها والمعنوية، القليلة منها والكثيرة، هذه لن يترك الله منها شيئا.
فمن عليهِ حقوقٌ لغيرهِ فليُؤدها، ومن عليهِ مظالمُ للناسِ فليتحلل منها اليومَ قبلَ الإفلاس، فقال النبيٌّ الكريم صلى الله عليه وسلم ” أَتَدرُونَ مَا المُفلِسُ؟ قَالُوا: المُفلِسُ فِينَا مَن لَا دِرهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتِي يَأتِي يَومَ القِيَامَةِ بِصَلَاةٍ, وَصِيَامٍ, وَزَكَاةٍ,، وَيَأتِي قَد شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ، فَإِن فَنِيَت حَسَنَاتُهُ قَبلَ أَن يُقضَى مَا عَلَيهِ أُخِذَ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ” رواه مسلم .
فالمفلس في الدنيا هو الذي لم يبقَ لهُ مالٌ ولا متاع، والشتمُ هو قبيحُ الكلام، والقذفُ هو الاتهامُ بالزنا، قوله ” أكل مال هذا” أي: أخذهُ ولم ينوِ ردَّهُ، سواءً أخذهُ بحقٍ, أو بغير حق، وقوله “وسفك دم هذا” أي: قتلهُ أو جرحه.، قوله ” فيُعطَى هذا من حسناته ” أي: يكونُ التسديدُ يومَ القيامةِ لأصحابِ المظالمِ ممَّا يملكُ الظالمُ والمعتدي، من الحسناتِ التي قدَّمَها في الدنيا على مقدارِها بالعدل، فإن فَنيت حسناتُهُ قبلَ أن يقضي ما عليهِ ظهرَ حينئذٍ ، إفلاسهُ على الحقيقة، وبالتالي لا بُدَّ من وفاءِ ما تبقى من المظالمِ التي عليه، ومن ثَمَّ يكونُ التسديدُ عن طريقِ تحملِ خطايا من ظلمهم، ثُمَّ يُطرحُ في النار .
فذلكَ هو المفلسُ على الحقيقةِ، إنَّهُ الظالمُ والمعتدي، الذي تذهبُ حسناتُهُ لغيره، بل وتضافُ إليهِ سيئاتِ المظلومين، فكم من أُناسٍ، في هذه الدنيا قد أَرصدوا الأموالَ وكدَّسُوها، وعاشوا عَيشَ المترفين، ولكنهم قد يكونونَ من المُفلسين يومَ القيامةِ، الذين تتلاشى خيراتُهم، وتذهبُ حسناتُهم إلى من ظلموهم واعتدوا عليهم، بل إنَّ من الحسرةِ النزولَ إلى الحضيضِ في الإفلاسِ، بحيثُ بعد فناءِ الحسناتِ تُحمَلُ على الظالمِ سيئاتُ المظلومين، ثُمَّ يُطرحُ في النارِ .
ولقد أقسم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدق بغير قسم، أقسم أن الحقوق ستؤدى إلى أهلها يوم القيامة ولا يضيع لأحد حق، والذي لك إن لم تستوفه في الدنيا استوفيته في الآخرة، حتى إنه يقتص للشاة الجلْحاء من الشاة القرناء ، والجلْحاء التي ليس لها قرن ، والقرناء التي لها قرن، والغالب أن التي لها قرن إذا ناطحت الجلْحاء التي ليس لها قرن تؤذيها أكثر، فإذا كان يوم القيامة قضى الله بين هاتين الشاتين واقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء هذا وهن بهائم لا يعقلن ولا يفهمن لكن الله عز وجل حكم عدل أراد أن يرى عباده كمال عدله حتى في البهائم العجم، فكيف ببني آدم؟ ففي يوم القيامة يقتص للمظلوم من الظالم” .
فعلينا أن نكون حذرين من هذا اليوم العظيم، ولا يمكن لنا أن نسلم إلا فيه إلا إذا خرجنا من الدنيا بذمة نقية ، ولكن رغم تخويف الله لنا وتحذيره إيانا من أن نتعدى على حقوق العباد، ورغم نكير النبي الكريم صلى الله عليك وسلم على كل من يمد يده خلسة إلى ما لا يحل له فيأكل المال من غير حلّه، إلا إن أناسا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في زماننا هذا قد انتفخت بطونهم من الحرام، وترهلت أطرافهم من الربا، وتخرقت ذممهم من حقوق الآخرين، واسْودّت سجلاتهم من كثرة تعدّيهم على أملاك الخلق وحقوقهم وأعراضهم.
ولَقَدْ توعد الله الَّذِينَ يخالفون أمره ويتصرفون عن ذكره ويجترؤن على معاصيه بشديد غضبه وعَظِيم سخطه وحذرهم بأسه وانتقامه فما بال كثير من النَّاس بعد القرون الأولى عمدوا إلى محارم الله فارتكبوها ومأموراته فاجتنبوها ثُمَّ عادوا بمر الشكوى من تغبر الأَحْوَال وانتزاع البركة من الأرزاق والأموال.
أحسبت أنك يا ابن آدم تهمل وتترك فلا تعاقب، وتظلم وتتقلب في النَّعِيم كيف شئت ولا تحاسب أنسيت قول النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: ” إن الله ليملي للظَالِم حتى إذا أخذه لم يفلته” فكُلّ هَذَا من جهالتك وانطماس بصيرتك ولكن اعمل ما شئت فسيرى الله عملك ثُمَّ ترد إليه ويجازيك بما تستحق جهلت في حال النَّعِيم وكَانَ الواجب عَلَيْكَ أن تتعرف إِلَى اللهِ في الرخاء ليعرفك في الشدة، ولكن لم تفعل وأصبحت بعد زوالها منك شكو لمن؟
تشكو لمن عصيته بالأمس تشكو لمن خالفت أوامره وفعلت نواهيه مَعَ علمك أنه المنتقم الجبار تشكو لمن حاربته بالمعاصي المتنوعة وقَدْ أسبغ عَلَيْكَ نعمه ظاهرة وباطنة ولو شَاءَ لمنعها عَنْكَ لأنه الفعال لما يريد تشكو لمن تأكل نعمه في أرضه مستعينًا بها على معاصيه أليس عملك هَذَا في منتهى اللآمة والخساسة يمدك بالنعم وتبارزه بالمعاصي ألك صبر على جهنم وزمهريرها ألك طاقة بالويل والغساق والزقوم والحميم والضريع .
فيجب علينا أن نسأل أنفسنا سؤال ،أين رفقاؤنا وإخواننا أين ذهب معارفنا وجيرانَا أين أصدقاؤنا أين زملاؤنا وأقراننا أين علماؤنا العاملون بعلمهم أين آباؤنا وأجدادنا ؟ فقد رحلوا وَاللهِ وبعدهم بقاؤنا وهذه مساكنهم فيها غيرهم قَدْ نسيناهم ، وأين أصحاب القصور الحصينة، والأنساب العالية الرصينة والعقول الراجحة الرزينة ؟ قبضت عَلَيْهمْ يد الْمَنَايَا فظفرت ونقلوا إلى أجداثٍ ما مهدت إذ حفرت ورحلوا بذنوب لا يدرون هل غفرت أو بقيت .
ويوم القيامة يوم القصاص ويوم رد المظالم ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلمقال ” يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حفاة عُرَاةً بُهْمًا ” قالوا : وَمَا بُهْمًا يا رسول الله ؟ قَالَ : ” أي لَيْسَ مَعَهُمْ من الدنيا شَيْءٌ ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ ، أَنَا الدَّيَّانُ ، ثم يقول جل وعلا : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ولأحدٍ من أهل النار عليه مظلمة حتى أقصَّها منه ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ ولأحدٍ من أهل الجنة عليه مظلمة حتى أقصها منه ، حَتَّى اللَّطْمَةَ ” قالوا يا رسول الله وكيف ذاك وهم إنما جاءوا بُهمًا ؟ قال : ” بالحسنات والسيئات “…. فإتقوا الله عباد الله .