الممنــــوع مرغـــوب
طارق رضوان
تدعو جميع الأديان إلى البحث والتدبر وتقبل الأخر فيقول الله عز وجل: ((إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ الَّتِي تَجرِي فِي البَحرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَاءٍ, فَأَحيَا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ, وَتَصرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ لآياتٍ, لِقَومٍ, يَعقِلُونَ)).
وفى (“سفر نحميا 1:6) تجد: “لِتَكُنْ أُذْنُكَ مُصْغِيَةً وَعَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْنِ لِتَسْمَعَ صَلاَةَ عَبْدِكَ الَّذِي يُصَلِّي إِلَيْكَ الآنَ نَهَارًا وَلَيْلًا لأَجْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدِكَ.
أصبح قرار المنع والرقابة الأدبية أو الفنية قرار لا معنى له وقرار غير منطقى فى زمن الشبكات الإجتماعية والتقدم التكنولوجى، حيُ أصبح الوصول إلى ما تبحث عنه وتريد قراءته أمر يسير. ومثل هذه القرارات تذكرنى بأحجية مضحكة وهى هل البيضة تسبق وجودالدجاجة أمأن الدجاجة تسبق وجود الدجاجة. ففى إعتقادى المتواضع والذى لا أفرضه على القارىء أننا يجب ألا نخجل منتقصاتنا وأخطائنا،فندفنها وندفنرؤسنا فى الرمال كالنعام. لكنى أفضل مواجهة المشاكل ونحاول إصلاحها والتوعية بأضرارها ومحاولة التغيير ولو تدريجيا إلى الأفضل. فهكذا تقاس حضارة الأمم بالإجتهاد والمثابرة والتغيير للوصول إلى مجتمع راقى. في البدء كانت الكلمة، الكلمة قد تكون بالفعل أحدّ من السيف، قد تغير مستقبل أمم، وقد تقلب الوضع من أمر لأمر، لذا تخضع الأعمال الأدبية لرقابة صارمة.
لكن لنبحث معا بشكل مبسط أسباب المنع من النشر: السبب قد يكون سياسياً، إجتماعياً أو دينياً فى الغالب. وهنا رأيين جديران بالأحترام: فالبعض يعتقد أن القارىء يثور ضد هذه الأعمال ويطالب بحظرها ومنعها من النشر لأنه لا يستطيع التمييز بين الواقع والخيال بمعنى أن هذه الشخصيات التى فى الرواية تمثل شخصيات خيالية وبالتالى تتحدث عن افكار خيالية ولا تعبر عن رأى المؤلف نفسه.
الرأى الثانى والذى أميل إليه هو أن ما ينطقه شخصيات الرواية ما هو إلا تعبير عن معتقدات الكاتب ونقده لمجتمعه ، لا بغرض الإحباط وإثارة الفتن ولكن لإعمال العقل وفرز الصالح من الطالح. فالكاتب والأديب الحق هو جراح ناجح لأمته بوجه خاص وللعالم أجمع بوجه عام. وبقلمه يحاول أن ينزع كل ما يضر ويؤذى بنيان المجتمع، كما يفعل الجراح بمشرطه الجراحى. وهنا لابد أن يستشعرالمجتمع الألم لكى يستجيب للدواء. فالعلاج لكى ينجح فى شفاء المريض لابد أن يكون علاج جيد ولابد أن يكون هناك إستجابة مسبقة من المريض ورغبة فى التداوى. فنحن الأدباء لا نفرض شىء على القارىء ولكننا نساعده للتعافى. لكن إحقاقا للحق يبنغى أن يعمل الأديب جاهدا على جذب القارىء بصور جمالية واستعارت وتشبيهات بليغة حتى يضع القارىء يده على أوجاع المجتمع ومعاناته بشكل يسير لا يصيب القارىء بالملل والسخطعلى العمل الأدبى.
فإن كنت تمقت الرأي الآخر وتكره الأدب المختلف أو وجهات النظر غير التقليدية، فالعيب عيبك وليس عيب الأدب والأدباء. فلنتعلم تقبل الأخر و قبل قراءة العمل الأدبى يجب أن تلم بمعلومة وافية عن الكاتب. فهل يعقل أن تتغذى على طعام لا تعرف مصدره؟! هكذا الكتاب لا يمكنك فهمه تماما دون أن تعرف خلفية عن مؤلفه، حتى تصل إلى قرار عادل ونقد بناء لهذا العمل الأدبى.
وهناك أدباء تم منع أعمالهممن النشر ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: محمد شكري الذى ولد في سنة 1935 في آيت شيكر في إقليم الناظور شمال المغرب، لأسرة فقيرة عانت من ظروف صعبة مأساوية، الأمر الذي أثر على حياته كلها. هذه الحياة القاسية كانت دافعه لكتابة سيرته الذاتية في ثلاثة أجزاء أولها “الخبز الحافي”، بعد إلحاح من صديقه الكاتب الأمريكي بول بولز الذي اتفق معه على نشرها، ولم تنشر بالعربية حتى سنة 1982.
نشرها شكري بالعربية لتلقى هجوماً ضخماً مستمراً إلى اليوم رغم وفاة صاحبها، وهو أمر متوقع بسبب جرأتها غير العادية، وطريقة وصف العوالم المهمشة للفقراء في المغرب بشكل صادم، اختلط فيه الجنس بالمخدرات بالجريمة، الكاتب سرد حياته بشكل صادق ومفضوح، وأكملها فيما بعد في جزأين آخرين هما زمن الأخطاء، ووجوه.
على الرغم من صعوبة وحدة الوصف في هذه الرواية، إلا أنها صادقة تماماً، دون مبالغات، الأمر الذي يقودنا لمعرفة أن الواقع دائماً يكون أصعب وأقسى من الخيال. يمكننا وصف شكري بالأديب الواقعي الوثائقي، ربما يمكننا كرهه والنفور منه، ربما أيضاً يمكننا التشكيك في بعض قصصه ومن بينها حقيقة أنه بدأ تعلم القراءة والكتابة في العشرين.
زاد من جرعة الجرأة والمباشرة ليحوز إعجاب الأوروبيين عند طبع الرواية بالفرنسية، وهذا إن كان خطأ إلى حد ما، إلا إنه لا يمنع التعاطف مع شكري ومع ظروف حياة لم يملك من أمره فيها شيئاً، عقد دفينة بدأت مع قسوة والده وكراهيته له، وانتهت بعالم مظلم عاشه بين تجار المخدرات والبغايا. مشكلته هنا هو كفاحه للخروج من هذا المستنقع، إصراره على تعلم القراءة والكتابة فتح له عالماً جديداً مختلفاً كل الاختلاف عما يعهده، فبقي معلقاً بين العالمين، ومن هنا جاء الإبداع.
صدمة الرواية في رأيي لم تأتي من ألفاظها الخادشة أو أحداثها الجريئة، بل أتت من حقيقيتها، من صدقها وواقعيتها..الأمر الذي يثير غضب مدعي الفضيلة دوماً، وهو هنا يذكرني ويذكر الكثيرين بالكاتب الأمريكي هنري ميللر الذي تعرض لنفس الهجوم بسبب رواياته الجريئة الواقعية. أيضاً تشابه طفولته وحياته في قاع نيويورك مع طفولة شكري وحياته في قاع طنجة في الأربعينات.
فئران أمي حصة – سعود السنعوسي : الرواية الثالثة للكاتب الكويتي سعود السنعوسي لتكون بمثابة نذير يحذر من الفتنة وأهوالها خاصة في الدول التي تتعرض بالفعل لصراع سني-شيعي سواء كان على المكشوف أو من وراء الكواليس.
التشاؤمية التي كتبت بها الرواية الديستوبيا عن مصير الكويت الذي ينتهي به الحال إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، جعلها تقع ضمن الروايات الممنوعة في موطنها، رغم أنها رواية تخيلية، جاءت كصيحة تنبيه وليس إثارة للمشاكل أو الخلاف مثلما اتهمها الرقيب بزعزعة الثوابت العقائدية والأمن القومي!
هذه الرواية نقلت جزءاً كبيراً من المخاوف والأفكار، مخاوف من الفقد، من الحرب، من الوضع العالق المأساوي، المرعب حيث يتناحر أبناء بلد واحد. لماذا نصر دائماً على إدعاء كوننا في أفضل حال، دون مواجهة الواقع ومحاولة إصلاحه؟ خاصة مع سرد الرواية لخطين زمنيين الأول حول الغزو العراقي للكويت، والأحداث التفصيلية التي رافقت ذلك كما ينقلها الأبطال من داخل بيوتهم حينها، لا كما نراها على شاشات الأخبار، والثاني في المستقبل الذي تدور فيه حرب أهلية رغم بشاعتها إلا أنها للأسف قابلة للتصور.
أولاد حارتنا – نجيب محفوظ: دعونا نتفق أن هذه الرواية ليست العمل الأدبي الأفضل للأديب الكبير نجيب محفوظ، لكنها بكل تأكيد الأشهر كما يحدث دوماً للكتب التي تمنع من النشر. يقول محفوظ في نقاش له حول الرواية: “القصة تصور هذا الصراع المرير الذى تزعمه الأنبياء والرسل دفاعاً عن الفقراء وتهيئة العيش السعيد للناس أجمعين حتى يتفرغوا للبحث الأعظم، ولكن ما إن تنتهي الرسالة حتى يعود الأغنياء فيقبضوا على زمام الأمور، وتعود المعركة من جديد للوصول إلى العدل والرفاهية للجميع، ثم تدخل “العلم” بعد انتهاء الرسالات ليقوم بنفس الغاية وهي إسعاد الناس، ولكن المستغلين سخروا العلم لمصلحتهم أيضاً، وقتلوا رمزه في القصة، إلا أن شخصاً آخر استطاع الهروب بسر الاختراعات العلمية الحديثة ليعاود الكفاح من أجل إنهاء الصراع بسبب لقمة العيش والتفرغ لمعرفة سر الحياة”.
كما ذكر في التحقيق الذي تلا عملية اغتياله: ” أولاد حارتنا مثل كليلة ودمنة ترسم عالماً متصوراً لتوحي بعالم آخر. نحن نعرف والقارئ العادي يعرف أن قصدنا نقد البشرية ونظام الحكم والعلاقات بين الأفراد، وحكمة الحكماء، وسفاهة السفهاء”. ويضيف:” هؤلاء ( يقصد قتلته) لا يقرؤون القصص الأدبية بعين أدبية أو إنسانية تريد أن تعرف الحقيقة وصراع الخير والشر، المهم في نظرهم أن يكون العمل خاضعاً حرفياً لتعليمات الدين، وحتى فى ذلك هم يغالون، لأن الدين نفسه عرض قصة الخير والشر، وقصة عصيان إبليس على الذات الإلهية، وروايات كلها تدور حول مفاهيم واضحة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون القصد منها التعرض لأي دين من أديان السماء، أو الازدراء به والقول بأنني كافر أو مرتد فيه افتراء”.
هناك العديد من الروايات العربية الأخرى التي تعرضت للهجوم أو المنع أو الإضطهاد، لكن كل هذه الأمور لم تكن سوى بمثابة تحفيز أكبر لإنتشارها وقراءتها، المنع إذن يمنحنا فرصة الإهتمام وتسليط الضوء على أعمال قد تكون هامة، قد تلعب دوراً في التغيير، أو تفتح مجالاً جديداً للتساؤل. ألم يحن الوقت للجهات المصادرة لحرية التعبير من إعادة النظر في سياساتهم، والتفكير في تقبل العصر الحالي المفتوح ومسايرته؟
الوسوم:
الخبزالحافى/ وليمةلأعشاب البحر/ أولاد حارتنا/فئران أمى حصة/