ثقافة وفن

الكرم ادابه وأسبابه

الكرم آدابه وأسبابه

كتب:-محمد سعيد أبوالنصر

الكرمُ والجودُ منْ مكارمِ الأخلاق، ومنْ أفضلِ الصفاتِ على الإطلاق، أوصى اللهُ بها نبيَهُ العظيم، وحثنا عليها في كتابهِ الكريم، وجعلها من دلائلِ الإيمان، وشرَّفها بالذكرِ في القرآن، قال اللهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ،
والكرمُ اسمٌ من أسماءِ اللهِ تعالى، وصفةٌ منْ 1صفاتهِ عزَّ وجل، لأنهُ هوَ الذي انفردَ بالملكِ والغنى، ((فهوَ سبحانه إذا عُصي غفر، وإذا اطَّلعَ أمهلَ وسَتر، وإذا وعدَ وفى، لا يَضِيع منْ لجأ إليه، يداهُ مبسوطتانِ بالخيرات، ولهُ خزائنُ الأرضِ والسماوات، لا يُنازعُ في قسمةِ رزقه، ولا يُراجعُ في تدبيرِ خلقه، فهو الكريمُ بالإطلاق)).
وقدْ وصفَ اللهُ سبحانه أنبيائَهُ بالكرمِ، فقال:(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) ، وقال تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)
والكرمُ مِنَ الأخلاقِ العريقة، والقِيَمِ النبيلة، عرفَها منذُ الأزلِ أصحابُ النفوسِ العظيمة في تعاملاتِهم، وجعلوها دليلَ الرفعةِ والفخار، لما فيها مِنَ الإيثار، وعُلُوِّ الهممِ والأقدار، سُئِلَ أحَدُهُم عنِ الكرمِ فقال: “هو التبرُّعُ بالمعروفِ قبلَ السؤال، والرأفةُ بالسائلِ مع البذل”، وحينما جاءَ الإسلامُ أضفى على الكرمِ معاييرَ جديدة، ووجَّههُ نحوَ مقاصدَ ساميةٍ رشيدة، فاتجهَ بهِ إلى القيمِ الروحية، والمعاني الدينية، فلم يعدِ الباذلُ يرجو الفخرَ والثناء من الورى، وإنما غايتهُ الثوابُ والجزاءُ في العقبى، يقولُ النبيُ – صلى الله عليه وسلم – : ((إنَّ اللهَ تعالى جوادٌ يُحبُ الجود، ويُحِبُّ معالي الأخلاقِ ويكرهُ سفسافها)).
آداب الكرم
للكرمِ في ظلِّ الإسلامِ آدابٌ وسلوكيات، يجبُ على المنفقِ أنْ يتحلى بها، ويتمسكَ بها كُلُّ باذلٍ جواد، وهذهِ الآدابُ هي التي تحددُ نظرةَ الإسلامِ للكرم، فيسودُ الحبُ والوئام، ويعمُ الخيرُ وينتشرُ السلام، وتختفي مظاهرُ الأثرةِ والأنانية، وتزولُ منَ النفوسِ الأحقادُ والكراهية، ويتلاشى الحسدُ والشقاق، ويَحِلُ مَحِلَّه الودُّ والوفاق، ومنَ الآدابِ التي حثَ الإسلامُ عليها، وأمرَ المسلمينَ أنْ يتصفوا بها؛ الإنفاقُ منْ طيبِ المال، يقولُ سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ، وروي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا طَيِّبٌ، فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ -وهوَ ابنُ الناقةِ الصغير- حتَّى تَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ ” أي مثل جبل أحد ، فالباذلُ أو المعطي إنَّما يعمد إلى طيبِ مالهِ وأجوده، يمنحُ إخوانَهُ المعسرين، فيعطي الفقراءَ والمحتاجين، ويمنحُ المساكين، من فضلِ اللهِ ربِّ العالمين.
لقد حثَّ الإسلامُ على المبادرةِ بالعطاء، وتعجيلِ الإنفاق، وأوجبَ على المعطي أن يبادرَ السائلَ بالبذل، فقدْ روي عن جابر-رَضِيَ اللهُ عَنْه- قال: ((ما سُئِلَ رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – عنْ شيءٍ فقالَ: لا)). فالتؤدةُ محمودةٌ في كلِ شيءٍ إلا في اصطناعِ المعروف، فإنَّ التؤدةَ فيهِا تنقيصٌ له، قالَ عمرُ بن الخطاب رضي اللهُ عنه: ((لكلِ شيءٍ شرف، وشرفُ المعروفِ تعجيله))، فطلاقةُ الوجه وطيبُ اللقاءِ يملأُ نفسَ المعطي رحمة، ويملأُ نفسَ المتلقي بِشراً وأمنا، فالموسرون لا يسعون الناس بأموالهم، ولكنْ يسعهم منهم بسطُ الوجهِ وحُسنُ الخُلُقِ وقد جاءَ في الحديث: ((تبسُمُكَ في وجهِ أخيكَ صدقة))، وقد حرصَ الإسلامُ على مكارمِ الأخلاق، وسعى إلى تأكيدِ القيمِ والمُثُلِ العُليَا في المجتمع، فدعا المنفقَ إلى الزُهدِ فيما بينَ يديه، وحثهُ على الإنفاقِ بما لديه، لأنه يفنى وينفد، والرغبةُ فيما عندَ اللهِ أبقى وأخلد، ولأنه سبحانه باقٍ خالدٌ لا يُضِيعَ أجرَ منْ أحسنَ عملا، فلا يجدُ المنفقُ حرجاً فيما يبذله، ولا يشعرُ بضيقٍ فيما ينفقه، قال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، فإذا فَطِنَ المسلمُ إلى هذهِ الحقيقةِ فإنه ينصرفُ عنِ الطمعِ في الدنيا، ويزهدُ فيما فيها، ويتعلقُ بالآخرةِ ويطلبُ ثوابها وخيرها، فيتضاءلُ عندهُ الكثير، فلا يأسى على ما بذل، ولا يفرحُ بما حصّلَ وكسب، فينفقُ بسخاوةِ نفس، وطيبِ سريرة، وطلاقةِ وجه.
لقد عَظَّمَ الإسلامُ الكرمَ والجود، وأبغضَ كُلَّ بخيلٍ شحيحٍ كنود، وغرسَ حُبَّ البذلِ في نفوسِ أتباعه، لما فيهِ منْ خيرٍ وفضل، فهوَ يصونُ وجهَ المحتاجِ عن المسالة، ويحفظُ من مذلةِ الحاجة، وينأى بهِ أنْ يُرِيقَ ماءَ وجههِ في طلبِ المسألة، ومنَ الناسِ أعطَوهُ أو مَنَعُوه، تجملاً معه أو سخروا به، رقوا لحالهِ أو جفوهُ واستغلظوا له، فقدرَ المسلمونَ قيمةَ العطاء، طمعاً في الثوابِ منْ ربِ الأرضِ والسماء، فحرَصُوا على التنافسِ فيه، والتسابقِ إليه، وبهذهِ الروحُ تَفَهَّمَ المُسلِمُونَ القيمةَ الحقيقيةَ للثروةِ والمال، قيل: ((ما جَمعتَ من المالِ فوقَ قُوتِكَ فإنما أنت فيهِ خازنٌ لغيرك))
دواعي الكرم
إن للكرمِ دواعٍ تدعوا إليهِ، وأسباباً تحثُ عليهِ، وتدفعُ المرءَ إلى الجدِ في طلبهِ، والحرصِ على تحصيلهِ، ولذا فقد قررَ القرآنُ الكريم، أن المالَ مالُ اللهِ وأن الناسَ مستخلفين فيه، يُنفِقُونَ منهُ، ويتمتعونَ بهِ، يقولُ اللهُ سبحانه: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) ، ومن هُنا يختلف مفهومُ الكرمِ في الإسلامِ عنه في الجاهليةِ، فالمسلمُ حينما يبذلُ مالهُ لا ينظرُ إلى ثناءِ الناسِ، ولا يبغي الشهرةَ وذيوعِ الصيتِ، وإنما يصرفُ نيته إلى الله، فيجعلُ غايتهُ رضاهُ، وهدفَهُ الفوزَ بثوابه، وطاعتهِ لربه، وحبهِ لإخوانهِ وقد قالَ النبيُ – صلى الله عليه وسلم – : ((إنما الأعمالُ بالنيات وإنما لكلِ امرئٍ ما نوى)) ودعا الإسلامُ المسلمينَ جميعاً إلى بذلِ المعروف، والحرصِ على الجود، قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) ،
ومن أسبابهِ وفرةُ المال، واتساعُ الحال، فالمعطي يبذلُ المالَ عن قدرةٍ ويسر، دونَ أن يجدَ في بذلهِ مشقةٌ أو عناءٌ، موقناً أنَّ هذا عينُ الوفاء، فهوَ يقدمُ بعضَ مالهِ لمن أعسرَ واحتاجَ من إخوانه، يُفَرِّجُ بهِ كُربَتَهُم، ويُسعِفُ بهِ أزمتَهُم، ويُعالِجُ بهِ حاجتَهُم، فيحظى بخيرِ الدارين، ويجمعُ بينَ المحبتين، محبةُ الله ومحبةُ إخوانه، ويفوزُ بالثوابِ العظيمِ يومَ القيامة، وهو ما عناهُ النبيُ – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((المسلمُ أخو المسلم لا يظلمُهُ ولا يسلمُهُ، ومن كانَ في حاجةِ أخيهِ كانَ اللهُ في حاجته، ومن فرجَ عن مسلمٍ كربةً فرجَ اللهُ عنهُ كربةً من كرباتِ يومِ القيامة، ومن سترَ مسلماً سترهُ اللهُ يومَ القيامة)).
ومن دواعيَ الكرمِ الرغبةُ في الحمدِ والشكر، ومحبةُ الثناءِ وطيبُ الذكرِ فتنفردُ إرادتهُ بحبِ عرضِ الدنيا، فيتكرمُ ويسمحُ ليُحمدَ ويُمدح، وهذا الكرمُ مذمومٌ بعيدٌ عن الدين، لما يشوبهُ من الرياء، ويُذهبُ بمرؤةِ العطاء، وقيمةِ البذلِ والسخاء، وقد حذرَ الإسلامُ المسلمينَ من الانزلاقِ إلى مهاوي الرياء، لأنها تمحقُ ثوابَ الصدقة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) ، وقد يكونُ الداعيَ إلى الكرمِ استجلابُ منفعة، أو دفعُ مضرة، فيضطرُ إلى اصطناعِ المعروف، رجاءَ بلوغِ بغيته، والوصولِ إلى أمنيته، وهذا ليس خالصاً للهِ تعالى، يقولُ سبحانه : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ).
المراجع .
هذا المقال استقيته بتصرف من خطب الجمعة من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان .
#محمد_سعيد_أبوالنصر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى