غير مصنف

العنوان:الجسر الأخير

العنوان:الجسر الأخير

قصة قصيرة بقلم الأديبة سحر القوافي


على وجهي غمام وفي خطاي تراخ والجرح ينجل صدري ويتكدس أمامي إسفلتا يعبد درب سفري نحو المجهول غير مبال بهؤلاء التعساء الذين راحوا يحرجونني بنظراتهم الواخزة الهازئة كلما لمحوني ..استفزازتهم المتكررة تنخر كبريائي من حين لٱخر وغربة ممتدة تملأ علي وجودي وأنا أنا من عهد أسري بأحلامي نحو الواد المنساب جانب قريتي وتحت ظلال الأشجار المخضرة المحادية له والمواجهة لموقف الحافلات وسيارات الأجرة ..أجلس إلى وحدتي وقد أسندت ظهري إلى صفصافة عالية ملتفة الأغصان التوت عليها شجرة لبلاب فبدت كوكر طائر أسطوري عملاق وذكريات الطفولة تفيض من مخيلتي كحلم بعيد ولد أو لم يولد بعد..أتسلق عوالمي الخرافية الدافقة برائحة البحر والعشق..وكعادتي التي تتحدى أمطار الشتاء وقره وعواصف الخريف المحملة بأسى الأنام..تسللت عبر دروب القرية مبتعدا عن طريقها الرئيسي فارا من حر الصيف وبيوتها الصغيرة القديمة والحديثة المتجمعة والمتناثرة هنا وهناك عند سفح الجبل كالفوضى التي تغلفها وأصوات حيواناتها التي لا تنقطع طوال الوقت ..وهاهو جسدي المرهق فوق التربة الرطبة بينما تشتت أفكاري كألوان قميصي المتداخلة وسروالي الأسود الخشن الذي أحشو جيوبه أحيانا بقطع الكسرة اتسلى بأكلها كحبات الكاوكاو التي اشتهيها كثيرا..
امتدت يدي اليمنى إلى ورقة يابسةرحت أهشمها بأناملي المتغضنة..وبصري يحتضن بتناوب السماء الزرقاء والأرض المخضرة والحشائش ومياه الواد الصافية المتدفقة بتواصل يحاكي تجدد الزمن ومرور الأيام وتعاقب التاريخ والأحلام..وتلك الضفادع تقفز بين الفينة والأخرى تعبر عن وجودها ..يجتاحني شريط الذكريات بمرارتها وعتمتها وما يتوهمه الأهالي حولي من خواطر وخزعبلات وترهات جعلتني متهما بالشعوذة والدجل أو الجنون..وقبل حين تبعني الأطفال وهم يوشوشون بأصوات منخفضة وكأنهم يخشون مني أن أسمعها ثم علا صوت أحدهم متحديا “عبد المالك المهبول ما يعرفش واش يقول” وخاطبه ٱخر اسكت إنه مسكون والجنية التي بداخله ستقتلك أو تطاردك في الليل ..إنها سوداء مرعبةذات عينين حمراوين “فهمت جيدا ما يدور في القرية حولي ..انزعجت شتمتهم ..رشقتهم بالحصوات لأخيفهم..فزعوا هاربين مستصرخين ..تدمرت بداية ثم ضحكت باستخفاف في سريرتي رغم مرارة الموقف أشفقت على أهالي قريتي الذين مازالوا يرزخون في أصفاد الجهل والخرافات ويصدقونها .. فأنا مجنون لدى أهالي قرية العنصر ..من مدة خلت استشهد أبي ..ثم توفيت والدتي بعدما اشتد مرضها واستعصى علاجها..وبقيت وحيدا أسبح في دوامة من الكٱبة متجرعا كؤوس الأشجان والاغتراب..من زمنها وأنا مراقب مطارد كاللصوص ..تحوم حولي الشائعات ويحفني فضول الأهالي ..أراهم يتطلعون إلي باستغراب وتوجس..ربما لقيامي بشؤون البيت ..أو لأني أحيا منفردا وكثير الصمت ولا أجالسهم الا نادراً في الأعياد أو الولائم أو في صلاة الظهر من يوم الجمعة..ربما لهذه الأسباب أو لغيرها ثارت حولي زوابع القيل والقال وامتدت إلي الشائعات والخرافات والجنون..إنهم يصدقون أني مجنون ومسكون بالشياطين والجن ..بعضهم يخافني ..يرتجف إذا ما تحدثت إليه ولو بسؤال ..بعضهم يسخر مني ..بعضهم لا يبالي بي ويتجاهلني وربما يحتقرني ..وٱخر يتبرك بحضوري ..وذاك بحيره أمري ..وأنا أنا أدوس على نفاقهم وغطرستهم ومجونهم وتفاهتهم وأعرف كثيرا من خفاياهم المتوارية خلف أقنعة شتى ولا أفضحهم ..عشقتني نساؤهم ..مانعت دعواهن سخطت من تصرفاتهن ..لعنت شبقهن الجنسي ..وتوددهن الأرعن إلي ..أذكر ذاك المساء ..كنت عائدا إلى بيتي هادىء الخاطر مرتاح البال أسوق أمامي بقراتي ..التقني فتيحة عند حشائش السمار والأشجار الكثيفة المحادية للواد..لا ادري ماذا كانت تفعل هناك؟!هذه المرأة التي لم تنجب من زوجها طوال سنوات تشك في خصوبته لأنه يرفض زيارة الطبيب وتخشى أن يطلقها أو يتزوج من أخرى..نادتني ..اقتربت منها لربما احتاجت المساعدة..لم يكن في نيتها شيء من هواجسي البريئة وكان صوتها يترنح من شدة الغنج والدلال..لم أنبس بكلمة واحدة ..كنت مشدوها من هول الصدمة..اقتربت مني أكثر وأخذت تترجاني أن أجامعها وأكتم سرها ..بدت لي متوهجة النظر متوردة الخدين وقد رفعت شالها الأسود عن كتفيها شبه العاريين ليبدو جيدها الأبيض وصدرها الشامخ الذي أسدلت على الجانب الأيسر منه ظفيرتها السوداء ..كدت أقع في شركها تحت الإلحاح الشديد ..أغمضت عيني وقد حاصرتني صورة زوجها الطيب الهادىء ..استعذت بالله من نزغ الشيطان وكيده وفتحت عيني لأراها جنية تنهش روحي وتستعبد جسدي وربما هي فعلا جنية ارتسمت في هيئة فتيحة ..وبسرعة وخفة نزعت كفي من بين كفيها ..رأيتها تذرف الدموع ..أشحت عنها بنظري جانبا واستدرت عائدا لأكمل طريقي والدهشة تسد علي منافذ التفكير..
زليخة تلك الربعة الممتلئة التي مات بعلها في حادث سير من مدة وهي تطاردني بعينيها الواسعتين السوداوية..تجاهلتها ..وفي تلك الليلة الممطرة الشديدة القر..تناولت كوب شاي بمقهى القرية الوحيد بينما كنت عائدا أهرول نحو بيتي للإحتماء أباعد بين خطاي في الطريق الخالية إلا من صوت قطرات المطر وزمهرير الريح وقصف الرعد من حين لأخر وقد ابتلت ملابسي والتصقت بجسدي..وبمجرد ما لمحتني نادتني بإشارة خرساء برأسها وأومات لي بكفها أن تعالى ..لقد فتحت نافذة غرفتها المحادية للدرب الذي أسلكه وبقيت تترقب عودتي ..توقفت لبرهة ..تفحصت شبحها الأسود فبدت لي كأنها احترقت وتفحمت ..طرقت رأسي إلى الأرض واستعذت بالله من الشيطان الرجيم..ثم انطلقت أعدو صامتا مذهولا دون أن استدير إليها وكلي وجلا من أن يكون أحدهم قد رٱني وأنا أقف عند نافذتها..وفاطمة الشقراء اللعوب ..إيه ولمرابط سليم الذي طلب مني بعد أن دعاني لتناول طعام العشاء في بيته أن أشاركه في تخصيب بعض الزائرات اللواتي يرغبن في الحصول على الأطفال خشية الطلاق مقابل أن يدفع لي بلقمة من الطعام وبعض الألبسة قد تكون للموتى..إنه الشيطان عينه ..يستغل سذاجة النسوة ومشاكلهن ليشبع نزواته ويملأ جيوبه بالنقود..عيناه غائرتان حادتا النظر وأنفه معقوف..منظره مرعب..الحقير يحسن التلاعب بكل شيء ..حتى بالدين والأعراف..ويحصل على ثقة الجميع وتوقيرهم..لا أدري كم ستلازمني هذه الفواجع والمحن..التي تسيجني..تخنقني..وتدفعني إلى حافة الانهيار ..ومن يصدقني لو أطلقت لساني وكشفت الأسرار..سيطردني الأهالي أو يرجمونني ..فالحسناء حورية عشقها اغلبهم وخافت النسوة من تواجدها فمقتنها لقد أرعبهن جمالها وثقافتها واختلافها عنهن فهي تحسن التحدث وتفهم في السياسة والطب وتحفظ الأشعار وتروي للأطفال القصص ووقائع التاريخ..معلمة أنيقة تعلق بها أطفال القرية..المسكينة انتهت بها رعونتهم وإفكهم إلى الانتحار في يوم شتوي ممطر عاصف ألقت بنفسها من أعلى الجسر العتيد المنتصب عند مدخل القرية الغربي..ابتلعتها مياه الواد الكبير..ثم ركنتها إلى الضفة اليسرى بعد أن دفعتها لمسافة قصيرة ..وقد أخبر بوجودها هناك الراعي عز الدين فوجهت إليه تهمة قتلها لولا الرسالة التي وجدت مدسوسة تحت وسادتها والتي أدانت فيها النفاق المغلف لهم وأبجديات الأكاذيب السائلة من أفواههم وعيونهم ..عانت من القذف في شرفها ..فبشرت بقناعة الانتحار بعد أن فشلت في التغلب على جراحها وسمومهم..وعجزت أن تكمل دراستها الجامعية في ظل عوزها ..ٱه كثيرات هن الضحايا.. كثيرات يا عبد المالك..رجال قريتنا لا هم لهم سوى جمع الأموال وإتيان النساء والتنافس في إنجاب اكبر عدد من الذكور..أو التشاجر وتلويث الأعراض ومراقبة الطالع والهابط..وأنا أنا أقف وسط هذه العاصفة والفوضى حاملا شموخي وكبريائي وقناعاتي هازئا بما تذروه..فليس مهما عندي أن أمتلك سيارة أو دكانا أو مزرعة أو بيتا جميلا أو لاشيء..تمردت على مفاهيمهم العفنة وجمحت بأحلامي وهواجسي بعيدا عنهم ..تحررت من سفاسفهم وخزعبلاتهم وتوهماتهم التي تكبر وتتوالد يوما بعد ٱخر ولا تنتهي..ممتدة في أيامهم وخواطرهم حد النخاع ..متعب أنا يا رب وعلي أن أجلب الماء والحشيش لبقراتي ..إني أثير دهشتهم وحيرتهم..فيجزم أحدهم اني أبكم ..وٱخر أني أصم ويضيف صوت ثالث أني مسكون .. متزوج من جنية ..كثيرة هي الإشاعات التي تحاك حولي ..تائه أنا في صقيع وحدتي وحصار أسوارهم وأوهامهم ..وها انا أجلس إلى غربتي وعزلتي وجهي إلى الواد وظهري إلى القرية التي احتضنتني وصرختي الأولى..وقد تراقصت نجوم السماء وضاءة تحمل إلي سطورا من دفاتر اقداري ..وتزيح عن صدري شيئا من كتل الظلام المتكدسة عليها..ما الذي يشدني إليهم؟! لماذا لا أحزم حقائبي وأرحل؟!أبيع بقراتي وأدس نقودها في جيبي وأودع ذلك الجسر اليتيم دونما رجعة..
نهضت من مكانك ..قررت أن تحتضن خريفك قرية مازلت تجهلها أو المدينة التي طالما راودتك في أحلامك كعالم مفتوح الأبواب يموج بالمفاجٱت و..مشيت خطوات إلى الأمام قاصدا موقف الحافلات والسيارات لتسأل عن مواعيدها المقبلة ..لم تختر أية وجهة بعد ..وكنت تحكي زمنا ٱخر غريبا مغبشا بالحيرة والشجن وصوتا دفينا ٱخر قادما من غياهب الأعماق الجريحة المعتمة..والطريق تمتد وتمتد وتهرب منك أحيانا ..فتتعثر قدماك عند بعض الأحجار المعترضة والحفر ..تلتحق بك خطاك المتداخلة المهرولة ..تعبر الجسر كالفار من ذاته ..تقف صوب المجهول وبذهنك تتساقط أوراق الخريف مشكلة مساحة للإرتماء بعد أن بعثرتك ريح التمزق والغم ..وفجأة استدرت عائدا وقد شدتك دارك العتيقة بقرميدها الأحمر المتٱكل الباهت اللون..وأحجارها الناتئة البنية وحيواناتها المتحركة في رحبتها الترابية الواسعة المظللة بأشجار التين والزيتون وعرائش العنب..فبصمت بقاءك فيها حتى الختام


قصة قصيرة بقلم الأديبة الجزائرية سحر القوافي..مجموعة شطٱن المرٱة

العنوان:الجسر الأخير

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى