الجزء الأَوَّل من حُكمُ المرأَةِ أَثناءَ الحَيضِ في الإِسلامِ الأَصيلِ
بقلم:
رافع آدم الهاشميّ
Rafe Adam al Hashemi
الباحث المحقّق الأديب
مؤسّس و رئيس
مركز الإبداع العالميّ
………
حينَ تمتلك (ين) أَنت ورقةً نقديَّةً واحِدةً فئةَ المائةِ دولارٍ، و أَمتلِكُ أَنا (وَ أَعوذُ باللهِ مِنَ الأَنا) مائةَ ورقةٍ نقديَّةٍ فئةُ الورقةِ الواحدةِ منها هيَ الدولارُ الواحِدُ فَقط، حينها:
– أَيٌّ مِنَّا يكونُ الأَغنى؟
قبلَ أَن يُجيبَ عَقلُك عَنِ السؤالِ، لا بُدَّ أَن تعرِف (ين) أَنَّك عِندما امتلكت ورقتك النقديَّةَ فإِنَّما كانَ اِمتلاكُك ذاك على أَساسٍ عشوائيٍّ، اِعتماداً على الثقةِ الْمُتبادَلةِ بينك وَ بينَ الطَرفِ الآخَرِ الّذي أَعطاك تلك الورقةَ النقديَّةَ فئةِ الـ (100) مائةِ دولارٍ، أَمَّا امِتلاكيَ أَوراقيَ النقديَّةَ الـ (100) مائةَ الّتي كُلُّ واحِدَةٍ مِنها فئةُ الـ (1) دولارٍ واحدٍ فقط، إِنَّما كانَ اِعتماداً على التحقيقِ وَ التدقيقِ في كُلِّ ورقةٍ منها؛ ليسَ لعدمِ ثقتي بمَن أَعطاني الورقةَ منها؛ وَ إِنَّما لعدمِ ثقتي بمَن أَعطاهُ هُوَ تلكَ الورقةَ أَو أَيِّ شخصٍ مُخادِعٍ آخَرٍ كانَ سبباً في إِيصالِها إِلى يديهِ حتَّى وصلَت هيَ أَخيراً إِلى يديَّ أَنا، وَ بالتالي: بعدَ أَن نذهبَ معاً (أَنت وَ أَنا) إِلى البنك المركزيِّ لكي نتأَكَّدَ من مصداقيَّةِ الأَوراقِ النقديَّةِ لدينا، تكتَشِف (ين) أَنت أَنَّ الورقةَ النقديَّةَ الّتي معك هيَ ورقةٌ مزوَّرَةٌ بامتيازٍ! أَمَّا الأَوراقُ النقديَّةُ الّتي معي، فإِنَّها جميعاً هيَ أَوراقٌ أَصيلَةٌ جُملةً وَ تفصيلاً..
الآنَ، وَ أَنت تمتلِك (ين) ورقةً نقديَّةً مزوَّرةً فئةَ الـ (100) مائةِ دولارٍ، وَ أَنا أَمتلِكُ (100) مائةَ ورقةٍ نقديَّةٍ فئةُ الواحدةِ منها دولارٌ واحِدٌ فقَط، الآنَ:
– أَيٌّ مِنَّا يكونُ الأَغنى؟
مِمَّا لا شكَّ فيهِ مُطلَقاً، أَنَّني أَنا الأَغنى منك (بداهةً)، بل أَنا الغنيُّ وَ أَنت الفقير (ة)؛ فأَنت لا تمتلِك (ين) شيئاً أَبداً؛ لأَنَّك وَ ببساطةٍ شديدةٍ جدَّاً: ليسَ لديك إِلَّا ورقةً مزوَّرةً لا قيمةَ لها في أَسواقِ البيعِ وَ الشراء، أَمَّا ما لديَّ مِن أَوراقٍ على رَغمِ صِغَرِ فئةِ الواحدةِ منها، فإِنَّ لِكُلِّ ورقةٍ منها قيمتُها الحقيقيَّةُ الْمُستخدَمَةُ في جميعِ أَسواقِ البيعِ وَ الشراءِ.
الأَمرُ ذاتُهُ ينطبِقُ على تعاليمِ الإِسلامِ الأَصيلِ، فأَنت قَد يكون لديك شيءٌ تظنّ (ين) أَنَّك تمتلك (ين) تعاليماً منها، إِلَّا أَنَّ الّذي لديك لا يعدو كونهُ سوى تعاليمٍ مزوَّرَةٍ لا ترتبطُ بالإِسلامِ الأَصيلِ شيئاً، وَ إِنَّما هي مُجرَّدُ تعاليمٍ رُبَّما صاغتها عُقولُ البشرِ مِنَ الفُقهاءِ الأَبرارِ (رضوانُ اللهِ تعالى عليهِم أَجمعينَ) اعتماداً على ما وجدوهُ بينَ أَيديهم مِن مصادرٍ اعتبروها مرجِعاً غيرَ قابلٍ للتحقيقِ وَ التدقيقِ؛ لثقتهِم فيمَن نقلها إِليهِم، ممَّا أَدَّى إِلى وصولهم (لاحقاً) إِلى نتائجٍ مغلوطةٍ لا تمتُّ إِلى الإِسلامِ الأَصيلِ بصِلَةٍ قَطّ!
عندما أَتحدَّثُ معك أَو مع غيرِك أَيَّاً كانَ وَ أَينما كانَ وَ في أَيِّ أَمرٍ كانَ، فلستُ أَتحدَّثُ اِعتباطاً؛ وَ إِنَّما أَتحدَّثُ عَن خُلاصةِ تحقيقاتٍ وَ تدقيقاتٍ قمتُ بها شخصيَّاً خلالَ أَكثرِ مِن عقدينِ وَ نيِّفٍ مِنَ الزَّمانِ، تمخَّضَت هذهِ الْخُلاصَةُ عَن تخصُّصاتٍ علميَّةٍ دقيقةٍ وفّقني اللهُ تعالى إِليها في العَديدِ مِنَ العُلومِ ذاتِ العَلاقَةِ، مِنها: المنطق وَ الفلسفة وَ الفقه وَ الأُصول وَ التفسير وَ الرِّجال وَ الجرح وَ التعديل وَ الأَنساب وَ غيرها، بالإِضافَةِ إِلى تخصُّصي الدقيقِ في اللُّغةِ العربيَّةِ الفُصحى وَ جَميعِ آدابها وَ أَدبياتها وَ فنونها قاطبةً دُونَ استثناءٍ، لا على أَساسِ الكُتُبِ الدرسيَّةِ المنهجيَّةِ الحكوميَّةِ أَوِ الحوزويَّةِ، إِنَّما على أَساسِ لُغةِ جَدِّيَ المصطفى الصادقِ الهاشميِّ الأَمينِ وَ لُغةِ آبائيَ وَ أَعماميَ الأَئمَّةِ الأَطهارِ وَ جميعِ الصحابةِ الأَخيارِ (عليهِمُ السَّلامُ جميعاً وَ روحي لَهُم الفِداءُ).
حينَ أَتحدَّثُ في شيءٍ ما، فلا أَتحدَّثُ إِلَّا بعدَ غورٍ دقيقٍ في ثنايا أُمَّهاتِ الكُتُبِ وَ المراجعِ ذات العَلاقةِ، لذا: ففي رأَسيَ الآنَ أَكثرُ مِن ثلاثٍ وَ أَربعينَ أَلفَ مُجلّدٍ (43000) في شتَّى العُلومِ وَ المعارِف، لأَكثرِ مِن أَربعةِ آلافٍ وَ خمسمائةِ (4500) عنوانٍ، هيَ مِن أُمَّهاتِ المراجعِ وَ المصادرِ، بما فيها المخطوطةُ أَيضاً (الّتي يتجاوزُ عُمُرُ البعضِ منها عشرةَ قرونٍ وَ أَكثر) مِمَّا لَم يصلك شيءٌ منها قَط، وَ بأَكثرِ مِن لُغةٍ واحدةٍ أَيضاً، ناهيك عَمَّا وفّقني اللهُ تعالى إِليهِ مِن حقائقٍ وَ خفايا وَ أَسرارٍ كشفها لي عَزَّ وَ جَلَّ عن طريقِ ما وهبني إِيَّاهُ سُبحانهُ مِن عِلمِ (ما وراء الوراء)؛ بعدَ سيرٍ منِّي إِليهِ (بتوفيقهِ هُوَ عزَّ وَ جَلَّ) ضمنَ منهجٍ دَقيقٍ بالغِ الصعوبةِ في عِلمِ (السلوك وَ العِرفان) الّذي لا يمتُّ إِلى التصوُّفِ بشيءٍ مطلقاً، وَ إِنَّما هُوَ عِلمٌ مِنَ الَعُلوم الإِلهيَّةِ الّتي تعتمِدُ التَّقوى (تقوى الله) أَساساً لها دُونَ مُنازعٍ، حتَّى كشفَ اللهُ لي مِن نورهِ ما كشفَهُ لي مِمَّا لَن يتأَتَّى لأَحدٍ ما لَم يَكُن قَد سلكَ إِلى اللهِ تعالى السلوكَ ذاتَهُ خطوةً تلوَ أُخرى، كالدخولِ أَوِ الولوج إِلى عوالمٍ أُخرى، منها على سبيلِ المثالِ لا الحصر: عالم الأَرواح، وَ عالم الجِنِّ، وَ عالَم الملائكة، مِمَّا جعلني أُصبِحُ عالِماً ربَّانيَّاً لَم وَ لا وَ لَن تأَخُذُني في اللهِ لَومَةُ لائمٍ مُطلَقاً، وَ إِن كانَ اللائِمُ هُوَ أَحدُ والداي أَو كِلاهما معاً!
ما يَحُزُّ في نفسيَ هُوَ الجَهلُ الْمُتراكبُ الّذي يَعجُّ فيهِ غالبيةُ البشرِ على الإِطلاقِ، خاصَّةً أُولئك (المتأَسلمين لا المسلمين) الّذينَ يظنُّونَ أَنفُسَهم أَنَّهُم مِن أُمَّةِ جَدِّيَ رسول اللهِ (روحي لَهُ الفِداءُ)، وَ ما هُم إِلَّا سُبَّةً على جميعِ الأُممِ قاطبةً دُونَ استثناءٍ؛ حَيثُ أَنَّ هؤلاءِ الغالبيَّةَ إِن حدَّثتُهُم بشيءٍ يُسارِعونَ إِلى تكذيبيَ فيهِ؛ دُونَ أَن يُدَقِّقوا فيما أَضعهُ بينَ أَيديهم مِن أَدلّةٍ قاطعةٍ وَ براهينٍ ساطِعَةٍ تُثبتُ صحَّةَ ما آتيتُهُم بهِ وَ تؤكِّدُ بُطلانَ ما هُم فيهِ مِن سلوكيِّاتٍ ذاتِ عَلاقَةٍ، تكذيبهُم هذا ليسَ لأَنَّني حَفيدُ الْمُصطفى الهاشميِّ الأَمينِ (عليهِ السَّلامُ وَ روحي لَهُ الفِداءُ)، وَ إِنَّما لأَنَّني لا أَرتدي عِمَّةً (عَمامَةً) وَ لا أُطيلُ لحيتي وَ لا أَرتدي جلباباً كما يفعِلِ الآخرونَ مِمَّن يدَّعونَ العِلمَ بتعاليمِ الإِسلام!!! أُولئك كهنةُ المعابدِ سُفهاءُ الدِّينِ (لعنهُم اللهُ جميعاً أَينما كانوا)، أَو كما يفعلِ الآخرونَ مِمَّن تفقّهوا في تعاليمِ الإِسلامِ، أُولئك فُقهاءُ الْمُسلمينَ الأَبرارُ (رَحِمَ اللهُ تعالى الأَمواتَ مِنهُم وَ أَطالَ بقاءَ الأَحياءِ مِنهُم أَيَّاً كانوا وَ أَينما كانوا دُونَ استثناءٍ، بغَضِّ النظرِ عَنِ الطائفةِ الّتي ينتمونَ إِليها)!
تعاليمُ الإِسلامِ الأَصيلِ، لا تحتاجُ إِلى عِمَّةٍ (عَمامةٍ)، وَ لا تحتاجُ إِلى لحيةٍ طويلةٍ، وَ لا تحتاجُ إِلى جِلبابٍ قصيرٍ كانَ أَو حتَّى طويلٍ، تعاليمُ الإِسلامِ الأَصيلِ هيَ كتلك الورقةِ النقديَّةِ الأَصيلَةِ، لا يحتاجُ التيقُّنُ مِنها إِلّا إِلى عَرضِها على البنك المركزيِّ ذات العَلاقةِ، وَ البنكُ المركزيُّ الْمُختصُّ بتعاليم الإِسلامِ الأَصيلِ موجودٌ معَ كُلِّ إِنسانٍ أَينما يكونُ، البنكُ المركزيُّ هذا هُوَ: الفِطرةُ الإِنسانيَّةُ السّليمةُ الّتي فَطرَ اللهُ تعالى بها الإِنسانَ أَيَّاً كان.
اليومَ، في مقاليَ هذا، أَتناولُ إِليك موضوعاً يكشِفُ البابَ على مصراعيهِ أَمامَ مواضيعٍ أُخرى أَكثرِ خطورةٍ مِنهُ، مِمَّا يَجعلُ عقلك وَ قلبك معاً يتعلّقُ بتعاليمِ الإِسلامِ الأَصيلِ لا بتعاليمٍ مُزوَّرَةٍ ادّعت أَنَّها هيَ الأَصيلَةُ زوراً وَ بُهتاناً، موضوعيَ اليومَ هُوَ:
– حُكمُ المرأَةِ أَثناءَ الحَيضِ في الإِسلامِ الأَصيلِ.
مِمَّا لا شَكَّ فيهِ أَبداً، أَنَّ المرأَةَ قَد عانت مُعاناةً كثيرةً طوالَ عُقودٍ مَضت وَ حتَّى يومِنا هذا؛ إِثرَ اِبتداعِ تعاليمٍ مُزوَّرةٍ بديلةٍ عَن تعاليمِ الإِسلامِ الأَصيلِ، هذهِ التعاليمُ المزوَّرةُ الّتي جعلَت مُعتنقيها يُعامِلونَ المرأَة مُعاملةَ الكَلبِ الأَجربِ العَقورِ لا فَقطَ مُعاملتهم إِيَّاها على أَنَّها جاريةٌ تُباعُ وَ تُشترى!
كُلُّنا نعلَمُ عِلمَ اليقينِ أَنَّ المرأَةَ أَثناءَ عُدَّتِها الشَّهريَّةِ لا بُدَّ لها أَن تحيضَ، الْمُشكِلةُ الكُبرى ليسَت في حيضِها، فالحَيضُ أَمرٌ طبيعيٌّ لا عيبَ لها فيهِ أَبداً، فلا هيَ تُعابُ عليهِ، وَ لا هيَ تستحي منهُ، هكذا يجِبُ أَن يكونَ الحالُ وَ إِن كانَ دَوامُهُ في يومنا هذا مِنَ الْمُحال! إِنَّما الْمُشكِلةُ الكُبرى تكمُنُ في أَنَّ الكثيرَ مِن فُقهاءِ الْمُسلمينَ قَد أَفتوا بنجاسَةِ دَمِ الحيضِ، وَ بالتالي: فإِنَّهُم قَد أَفتوا بنجاسةِ المرأَةِ أَثناءَ فترةِ حَيضِها، مِمَّا ترتَّبَ على هذهِ الفتاوى آثارٌ خطيرةٌ جدَّاً، جعلَت هذهِ الآثارُ تبعاتَها تقَعُ على المرأَةِ أَوَّلاً، وَ مِن ثُمَّ (بضمِّ الثاءِ لا بفتحها) على الرَّجُلِ ثانياً، وَ مِن ثَمَّ (بفتحِ الثاءِ لا بضمِّها) على المجتمعِ قاطبةً دُونَ استثناءٍ، مِمَّا أَحدثَ تصدُّعاً مُروِّعاً في بناءِ الأُسرةِ الإِنسانيَّةِ الواحدةِ؛ إِذ بفتاواهُم تلكَ حَرَّموا عليها مُمارَسةَ أَفعالٍ ما أَنزلَ اللهُ بحُرمتِها شيئاً مِن سُلطانٍ، مِمَّا جعلوها مُقيَّدَةً بقيدٍ وثيقٍ في سِجنٍ قميءٍ!
إِذاً: فلنتعرَّف اليومَ معاً (أَنت وَ أَنا سويَّاً) على حَقيقةِ هذهِ الفتاوى وِفقَ منظورِ الإِسلامِ الأَصيلِ:
– هل حقَّاً أَنَّ المرأَةَ نجِسَةٌ أَثناءَ فترةِ حيضها؟!
بل:
– هل أَنَّ دمَ الحَيضِ نجِسٌ أَساساً؟!!
بل أَيضاً:
– هَل يوجَدُ شيءٌ نَجِسٌ أَصلاً؟!!!
بداهةً وَ بطبيعةِ الحالِ مِمَّا لا شكَّ فيهِ، أَنَّ تعاليمَ الإِسلامِ تعتِمدُ على القُرآنِ الكَريمِ، وَ ليسَ العكس، أَيّ: أَنَّ منهجَ التشريعِ الإِسلاميِّ لهذهِ التعاليمِ الإِسلاميَّةِ هُوَ القرآنُ الكَريمُ، هكذا يقولونَ أَصحابُ الفتاوى، وَ بناءً على قولِهم هذا: فأَنت الآن أَمامَ أَمرينِ لا ثالثَ لَهُما مُطلقاً؛ هُما:
الأَمرُ الأَوَّلُ: أَنَّ القُرآنَ الّذي بينَ أَيدينا اليومَ، هُوَ كِتابٌ صَحيحٌ لا تحريفَ فيهِ، وَ بالتالي: توجَّبَ على الجميعِ الأَخذُ بهِ جُملةً وَ تفصيلاً، دُونَ جِدالٍ فيهِ أَبداً، حتَّى وَ إِن خالفَ ما فيهِ فتاوى كُلِّ الفُقهاءِ أَو السُّفهاءِ قاطبةً دُونَ اِستثناءٍ.
الأَمرُ الثاني: أَنَّ القُرآنَ الّذي بينَ أَيدينا اليومَ، هُوَ ليسَ القُرآنُ الأَصيلُ، وَ إِنَّما هُوَ كِتابٌ مُحرَّفٌ، وَ بالتالي: سقطَت جميعُ الأَحكامِ المبنيةِ عليهِ (بداهةً) أَيَّاً كانت، بما فيها فتاوى نجاسةُ المرأَةِ أَثناءَ فترةِ الحيضِ وَ فتاوى نجاسَةُ دَمِ الحيضِ وَ غيرها.
عليهِ: وَ باعتبارِ أَنَّ هذا الكتابَ الّذي بين أَيدينا اليومَ هُوَ مصدرُ التشريعِ لتعاليمِ الإِسلامِ، وَ هُوَ ذاتُهُ مصدرُ أَحكامِ تلك الفتاوى، فلندقِّقَ معاً في هذا الكِتابِ (القرآن الموجود بين أَيدينا اليوم) لنرى الأَحكامَ على حقيقتها كما هيَ في الكتابِ ذاتهِ.
فيما يخصُّ الحيضَ، فإِنَّ دلالةَ الحيضِ وردَت في القُرآنِ (هذا) على شكلِ لفظِ (الْمَحِيضِ)، وَ قَد جاءَت متكرِّرَةً لثلاثِ مرَّاتٍ فقَط ضمنَ آيتينِ اثنتينِ لا غير، هُما:
الآيةُ الأُولى: قولهُ تعالى:
– {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.
[القرآن الكريم: سورة البقرة/ الآية (222)]
الآيةُ الثانيةُ: قولهُ تعالى:
– {وَاللاَئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}.
[القرآن الكريم: سورة الطلاق/ الآية (4)]
وَ قد قالَ تعالى في الآيةِ الأُولى صراحةً:
– { الْمَحِيضِ… أَذًى}.
وَ لَم يَقل:
– (الْمَحِيضِ… نجَسٌ).
لُغويَّاً: الأَذى: هُوَ الضَررُ غَيرُ الجَسيمِ، وَ الْجَسيمُ هُوَ: الخَطيرُ أَوِ الفادِحُ، وَ الأَذى فقهيَّاً هُوَ: الضَررُ الّذي يُصيبُ الإِنسانَ في بدَنهِ أَو في نفسهِ.
قالَ تعالى:
– {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَ أَذًى وَ إِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ}.
[القُرآن الكريم: سورة البقرة/ الآية (111)]
أَيّ:
– (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَ ضرراً غيرَ جسيمٍ).
بمعنى:
– (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَ ضرراً بسيطاً لَن يُهلِكَكُم أَبداً).
وَ قولُهُ تعالى في الآيةِ الأُولى ذاتها:
– {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}.
لغويَّاً فإِنَّ: اعتزلَ الشيءَ وَ عَنهُ: بَعُدَ وَ تَنَحَّى، وَ اعتزلَ عَنِ الآخَرينَ: اِبتعدَ عَنهُم، وَ فقهيَّاً: اِعتزلَ: اِبتعدَ بمفردِهِ، وَ: اِعتِزالُ العَمَلِ: الاِنقِطاعُ عَنهُ، أَيّ: تَركُهُ، وَ الاِعتِزالُ عَنِ النَّاسِ: الاِبتِعادُ عَنهُم وَ الاِختِلاءُ في مكانٍ بَعيدٍ.
قالَ تعالى:
– {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ، أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، وَأَنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ}.
[القرآن الكريم: سورة الدخَّان/ الآيات (17 – 22)]
فقولُهُ:
– {فَاعْتَزِلُونِ}.
أَيّ: ابتعدوا عَنِّي وَ تنحّوا جانباً؛ لأَنَّ لُغويَّاً: عَزلَ الشيءَ عَن غيرِهِ: فَصَلَهُ عَن اتِّحادِهِ معَ آخَرٍ، أَيّ: أَفرَزَهُ، وَ أَبعدَهُ وَ نَحَّاهُ.
لذا: فإِنَّ قولهُ تعالى في الآيةِ الأُولى:
– {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ}.
اعتزلوا: أَيّ: تخلّوا وَ تنحّوا، اتركوا، تنازلوا عَن الشيءِ الّذي تفعلونهُ، وَ هُوَ أَمرٌ موجَّهٌ إِلى الرِّجالِ لا إِلى النِّساءِ.
بمعنىً أَوضحٍ: الأَمرُ المزبورُ في الآيةِ الأُولى أَعلاهُ، موجَّهٌ إِلى كُلِّ زوجٍ بكيفيَّةِ تعامُلهِ في أَمرٍ واحدٍ مُحدَّدٍ هُوَ النِّكاحُ خاصَّةً وَ ليسَ المعاشرةَ الجنسيَّةَ؛ إِذِ الْمُعاشَرَةٌ كُلٌّ وَ النِّكاحُ جُزءٌ مِن هذا الكُلِّ، فالأَمرُ يستدعي مِن كُلِّ زوجٍ أَيَّاً كانَ أَن يعتزلَ النِّكاحَ عَنِ امرأَتهِ أَثناءَ فترةِ حيضها، لا أَن يعزلها هيَ عنهُ، وَ لا أَن يعزلَ نفسَهُ هُوَ عنها؛ لأَنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ لَم يقُل:
– (فَاعْزِلُوا النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ)!
وَ فرقٌ شاسِعٌ بيِّنٌ بينَ {اعْتَزِلُوا} وَ بينَ (اعْزِلُوا)، فلو قالَ:
– (فَاعْزِلُوا النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ)!
كانَ آنذاكَ قَد توجَّبَ عزلُ النَّساءِ وَ إِبعادهنَّ عنِ الحياةِ الاجتماعيَّةِ بجميعِ مفاصلها، أَو على أَقلِّ تقديرٍ مُمكنٍ: توجَّبَ عزلُ الأَزواجِ أَنفُسِهم عن نسائهِم أَثناء فترةِ حيضهنَّ، لكنَّ اللهَ لم يأَمُرُ بالـ (عزلِ)، وَ إِنَّما قَد أَمرَ بالـ (اعتزالِ)، فليُلاِحظ عقلك هذا جيِّداً وَ ليتبصَّر!
وَ في الحديثِ الشَّريفِ، قالَ النبيُّ المصطفى الأَمينُ (روحي لَهُ الفِداءُ) عندَ نزولِ هذهِ الآيةِ الواردةِ في أَعلاهُ:
– “اِصنَعوا كُلَّ شَيءٍ إِلّا النِّكاحَ”.
وَ هُوَ حَديثٌ مَتَّفَقٌ عَليهِ.
………
بقيَّةُ المقالِ في الجُزءِ الثاني منهُ إِن شاءَ اللهُ تعالى.