الإيمان والعباده
بقلم / محمـــــد الدكـــــرورى
إن الإيمان بالله سبحانه وتعالى هو الاعتقاد الجازم بأن الله ربُّ كلِّ شيءٍ ومَلِيكه وخَالقه، وأنه الذي يستحقُّ وحْدَه أن ينفرِدَ بالعبادة، وأنه المتَّصِف بصفات الكمال المنزَّه عن كلِّ نَقْصٍ ، وإن أوَّل ما أراد الله تعالى أن يعلِّمه لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم من العلوم هو العقيدة، فهي أساس كل عِلْم، والأساس هو الأصل الذي يُبنى عليه غيرُه، فهي أصل؛ أصل للعبادة، أصل للتعامل، أصل للمآل والعاقبة .
وإن نعمةَ الإيمان أعظمُ نعمةٍ على العبدِ، فإنه متى حظِيَ بها فقد نالَ نعمً لا تُدانِيها نعمة، ولا تُوازِيها منَّة، فبها تتحقَّقُ سعادةُ الدنيا والآخرة ، فالإيمانُ أكبرُ من منَّةِ الوجود الذي يمنَحُه الله ابتِداءً لهذا العبدِ وسائرِ ما يتعلَّقُ بالوجود، من آلاء الرِّزقِ، والصحَّة، والحياةِ، والمتاعِ، إنها المنَّةُ التي تجعلُ للوجودِ الإنسانيِّ حقيقةً مُميَّزة، وتجعلُ له في الحياةِ أثرًا فاعِلاً.
وحتى نُدرِكَ قيمةَ هذه النعمة، فلنتدبَّر قولَ الله عز وجل (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة الأنعام.
فهل يستوِي من كان ميتًا في الضلالةِ هالِكًا حائِرًا، فأحيَى الله قلبَه بالإيمانِ، وهداهُ الله له، ووفَّقَه لاتباعِ رُسُله، هل يستوِي هذا مع من يعيشُ في الجهالات والضلالات المُتفرِّقة، لا يهتدِي إلى مُنقِذٍ ولا إلى مُخلِّصٍ له مما هو فيه؟!
ومن فقَدَ الإيمانَ ولم يعرِف ربَّه الذي خلقَه، ولا نبيَّه الذي أرسلَه بالحقِّ، تخبَّط وهلَك؛ فالجهلُ بالله سُمٌّ مُهلِك ، وإن الإيمانَ رِبحٌ ومغنَمٌ ومنَّة، لا يقدُرُ قدرَه إلا من عرفَ قيمتَه، وله آثارٌ عظيمةٌ تعودُ على حياةِ العبدِ المُسلم؛ فمن آثاره التي حُقَّ لنا أن نقِفَ عندها .
أن الإيمانَ يُغيِّرُ كيانَ العبد، فيكونُ باعِثًا له على بَذلِ المعروف، ودافِعًا إلى استِباقِ الخيرات؛ فإن الصادقَ المصدُوق محمد صلى الله عليه وسلم قد أخبَرَنا أن إيمانَ العبدِ لا يكمُلُ حتى يُحبَّ لإخوانه المُسلمين ما يُحبُّ لنفسِه، فقال صلى الله عليه وسلم ” لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيهِ ما يُحبُّ لنفسِه ” رواه البخاري ومسلم.
عليه، فالمُؤمنُ مُستشعِرٌ أن له إخوةً في الدين يُحبُّهم ويُجِلُّهم، ويُحبُّ أن ينالَهم من الخير مثلُ ما نالَه، ويتحقَّقَ لهم من الفضلِ مثلُ ما تحقَّقَ له، والمُؤمنُ يبعَثُه إيمانُه ليكون فاعِلاً مُنتِجًا، فكم يشعُرُ بالسعادة عندما يبذُلُ لله ويأنَسُ بمُساعدةِ غيره وخِدمته، وتَطيبُ نفسُه عندما تُفرَّجُ كُربةُ أخيه على يدَيه؟! وهو حريصٌ أن يكون له سَهمٌ في شتَّى المجالات الخَيِّرة، وأن يحظَى بنصيبٍ وافِرٍ من الأجر، وحظٍّ عظيمٍ من الدرجَات.
إن الإيمانَ يُحوِّلُ العبادةَ إلى أداةٍ فاعِلةٍ مُثمِرةٍ مُنتِجة، لذا فالمُؤمنُ يحرِصُ مُدَّة بقائِه في الدنيا أن يكسِبَ من الحسنات، ويجمعَ من خِصالِ الخير، ويزدادَ قُربةً من ربِّه، ولأنه في سِباقٍ لا ينتهي حتى الموت، فهو يُبادِرُ بالأعمال الصالِحة، ويضِنُّ بالوقتِ أن يذهبَ عليه سُدًى، وبالعُمر أن يفنَى بلا فائِدة.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ، إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياضِ الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثَرُ السفر، ولا يعرفه منَّا أحدٌ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسْنَدَ رُكْبَتيه إلى رُكْبَتيه، ووضَعَ كَفَّيه على فَخذيه، وقال: يا محمد، أخْبِرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
” الإسلام أنْ تشهدَ أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجَّ البيت إنِ استطعتَ إليه سبيلاً “
قال: صَدَقْتَ، قال: فعجبْنا له يسأله ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: ” أنْ تؤمِنَ بالله وملائكته وكُتبه، ورُسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقَدَر خيرِه وشره “
قال: صَدَقْتَ، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: ” أنْ تعبَدَ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكنْ تراه، فإنَّه يراك “، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ” ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل “، قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: ” أنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتها، وأنْ ترى الْحُفاة العُراة العالَة رِعاء الشَّاء يتطاولون في البنيان “، قال: ثم انطلق فلبثتُ مَليًّا، ثم قال لي: ” يا عمر، أتدري مَن السائل؟ “، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ” فإنه جبريل أتاكم يعلِّمكم دينَكم ” ؛ رواه مسلم.