محلية
الإنتقال الديمقراطي المصري يتطلب إعادة النظر في خريطة تصميمة
الإنتقال الديمقراطي المصري يتطلب إعادة النظر في خريطة تصميمة
كتب محمد اسماعيل البنا
بات النقاش العمومي حول مسلسل الإصلاح والمسار التنموي بمصر مصحوبا بحرقة
التساؤلات، فلا يكاد يمر يوم دون أن تطفو على السطح مجموعة من الأحداث التي تفتح
الباب من جديد للتساؤل حول فعالية الإستراتيجيات المتبعة وأيضا مصداقية الخطاب
السياسي القائم على تكريس فكرة الاستثناء المصري ، والتي تستمد مبرراتها
السياسية والتاريخية من خصوصية واستقرار النظام السياسي المصري مقارنة مع
أنظمة عربية أخرى كانت مسرحا لمجموعة من التحولات بسبب أحداث الربيع العربي. إن
تعبئة هذه الخصوصية كمورد سياسي مكّن النظام السياسي المصري من كسب عدة نقاط إيجابية على الصعيد الدولي من خلال تقدم مستوى شراكاته الاقتصادية مع الدول
الغربية. ولقد شكلت الإصلاحات الإقتصادية رأسمالا رمزيا ساهم إلى حد ما في تعزيز
أطروحة الاستثناء المصري وتسويق الإصلاحات المعتمدة وفق إستراتيجية تقوم على
إبراز أهمية الثقة في الإرادة السياسية للفاعلين السياسيين بالدولة المصرية ، ومن ثمة تدعيم فرضية ”الانتقال الديمقراطي” الذي ما زالت عملية بناء سكَّته تتطلب إعادة النظر
في خريطة تصميمها وأيضا في مستوى كفاءة القائمين على اشتغالها. في هذا الاتجاه،
يبدو من المفيد أن نشير إلى أن عناصر الاستثناء المصري هي في حد ذاتها أهم العوائق
التي تعرقل مسار الإصلاح السياسي ثم الاقتصادي والاجتماعي، فبالرغم من كل
الأشواط التي قطعها الدولة المصرية منذ بداية 2010 وإلى يومنا من أجل ديمقراطية بنيات نظامه السياسي واعتماد إصلاحات إدارية كان من أهم مبادئها وضع أسس قانونية
جديدة لمبدأ التسيير الإداري وهيكلة الأجهزة الإدارية، فإن تتبع مسار هذه الإستراتيجيات
الإصلاحية يبعث على الحيرة وفي الوقت نفسه على التساؤل المحرج بسبب محدودية
تأثيرها سواءً على أداء بنيات الدولة أو أيضا على مستوى تمتع المواطن بحقوقه
الاقتصادية والاجتماعية . فبشكل مخالف للمنطق، تنحو سكة السياسة الإصلاحية بمصر
منحى معاكسا يجعلها تزيد من حجم عزلة الفاعل السياسي وابتعاده عن المواطن كما توسع حجم الهوة الفاصلة بين الدولة والمجتمع. ربما يكون الإشكال الأساسي، الذي
يجب تناوله في هذا الصدد، هو كون أزمة المسار التنموي بمصر ومحدودية فعالية
المسيرة الإصلاحية به توحي في عمقها المعرفي والسوسيولوجي إلى طبيعة العراقيل
التي ما زالت تصطدم بها كل الإرادات والمحاولات الرامية إلى بناء دولة عصرية قادرة
على القطع مع الطابع الارتجالي، وكذلك المنطق السلطوي الذي ما زال يفرمل الدينامية
مثلما يفرِغ كل الإستراتيجيات الإصلاحية من محتواها الأصلي ويجعلها عبارة عن أشكال
فارغة المضمون تُؤسس لديمقراطية شكلية ذات جوهر سلطوي. في هذا السياق تظهر
العلاقة القائمة بين التغيير والاستمرارية وبين الديمقراطية والسلطوية التي تهيكل كل
نقاش وجدل حول مآلات الإصلاح في بلد أصبحت فيه السياسة تنتج البؤس والطاقة السلبية بالنسبة إلى المواطن المصاب بالإحباط المتجلي في فقدانه للأمل واستكانته
للشكوى والنقد أمام أجهزة إدارية وحكومة لم يستطيعوا خلق ثورة قيمية على مستوى تسيير الشأن العام. وإذا ما عدنا إلى طبيعة القرارات المتخذة مثلا في مجالي التعليم
والصحة نجدها تتسم بالعشوائية والتخبط والضبابية، وتؤدي الى تعميق أزمة هذين
القطاعين العموميين الحيويين. فما يزيد الطين بلة ببلد يعتبر فيه دور الدولة الاجتماعية
محدودا جدا هو اعتماد مجموعة من الاختيارات النيوليبرالية الرامية إلى تقليص حجم
الالتزامات السوسيواقتصادية للدولة، حيث نتج عن ذلك تنامي مستوى الاحتجاجات
الشعبية المنددة بهذه الاختيارات الى جانب محدودية الحلول المقترحة من طرف
الحكومة والتي تفتقر إلى وضوح الرؤية والقدرة السياسية والمؤسساتية لصياغة برنامج
حكومي يتطابق مع البرامج الانتخابية لمكوناتها الحزبية. على العكس من ذلك كله، ما
زالت المقاربة الأمنية حاضرة بقوة كآلية لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي
يعاني منها المواطنون؛ وهو ما يدل على وجود أزمتي السياسة والفاعل السياسي بمصر ، فكما أشارت إلى ذلك حنآ أرندت، كلما طغى العنف على الحوار إلا وكان هذا
العنف دليلا على أزمة الفعل السياسي. الشيء نفسه نلاحظه بمصر اليوم؛ فاستثناءهُ
المُعلَن ما زال استثناءً سلطويا، ولا يمكن له أن يصبح ديمقراطيا في ظل بنية سياسية
وإدارية يتحكم فيها منطق العضلات بدل الذهن. إلى جانب هذه المعطيات، يجب الإشارة
كذلك إلى التراجعات الحقوقية التي يعرفها المصري منذ أحداث الريف وارتفاع أعداد
المهاجرين السريين، بسبب انسداد الأفق وفقدان الأمل في تحسين مستواهم الاقتصادي والاجتماعي، ناهيك عن ولادة ما نسميه بمعارضة الشارع ودينامية الاحتجاج
اللذين أصبحا يرمزان ليس فقط لحجم الاحتقان الشعبي ولكن أيضا لمستوى الوعي
السياسي؛ فأهم ما تولّد عن مسلسل التنمية والإصلاحات المعتمدة منذ 2015 هو ارتفاع
درجة التسيّس لدى الأفراد، حيث ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تطوير آليات
إدراكهم وثقافتهم السياسية. لقد أدّى الانتشار السريع للمعلومة السياسية في تغذية
الفعل الاحتجاجي بعدّة قرائن تُعد اليوم الإطار الذي بواسطته يتم تقييم أداء الفاعلين السياسيين. ويمكن الإشارة في هذا الجانب إلى انتقادات معاشات الوزراء والبرلمانيين
مثلا، ثم تعويضات خدام الدولة والفضائح المالية لبعض المنتخبين و المسؤلين بسبب
”نهب وتبديد المال العام ” وسوء التسيير. إن تقييم الحصيلة التنموية بمصر ومعها
المسيرة الإصلاحية المعتمدة يؤدي بنا إلى التركيز على كون أهم الأسباب التي ما زالت تعتبر عائقا بنيويا أمام إمكانية وضع أسس جديدة لمفهومي التسيير والحكامة الجيدة
هي طبيعةُ القيم الثقافية المتحكمة في اشتغال الحقل السياسي المصري ومن ثم،
يظل هذا المنطق الثابت الذي يحدد طبيعة كل التحولات، وأيضا الإصلاحات القائمة؛
الشيء الذي أدى إلى فقدان المسيرة الإصلاحية وأيضا المسلسل التنموي الإصلاحي
لكفاءات تتميز بالاستقلالية مثلما تتوفر على ما نسميه بالرأسمال الاستحقاقي ،وعلى العكس، فقد ظل الهاجس العائلي
ومنطق الطاعة والولاء هو المسيطر على حساب مبدأ الكفاءة، الذي حتى وإن كان
حاضرا ففعاليته تبقى محدودة بسبب تماهيه مع تلك القيم السلطوية والنيو بتريمونيالية.
ولنا في تجربة الاولي لإصلاح المصري خير دليل على ذلك، إذ بالرغم من كفاءة بعض
أعضائها من حيث الشهادات العليا ونوعية مدارس التخرج، فإن أداءهم السياسي
والتقني ظل محدودا وغير مقنع إن قارنا مستواهم ووظيفتهم بأداء إصلاحات آخري في
دول ديمقراطية. تفتح أزمة النموذج التنموي بالدولة المصرية الباب أمام جملة من
التساؤلات حول آفاق الإصلاح والديمقراطية بمصر ، إذ ترتبط التنمية كآلية وكمسلسل
ارتباطا عضويا بالديمقراطية؛ لأن هذه الأخيرة هي المرجعية التي من المفترض أن
تستقي البرامج التنموية منها ماهيتها وأيضا طرق صياغتها. فكما أشرنا إلى ذلك سالفا،
ما زالت الارتجالية وغياب العقلانية الاستباقية حسب تصور هربرت سيمون تسيطر على
مستويات بناء الفعل العمومي وأيضا عقليات الفاعلين السياسيين والإداريين. ويمكن
الإشارة، في هذا الصدد، إلى طرق تفاعل وتعاطي الحكومة مع الكوارث التي تصنع من
إيدي الإرهابين والأزمات الاجتماعية التي مسّت مناطق عدة من مصر . فالتراكمات السلبية الناتجة عن الذهنية الارتجالية في تسيير الشأن العام منذ الاستقلال إلى يومنا
هذا هي التي ساهمت في تجذر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بمصر . إن التأكيد على
هذه النقطة بالذات قد يبدو للبعض شيئا بديهيا أو ثانويا؛ لكنه ذو دلالات عميقة ترمز في أبعادها السيكولوجية والسوسيولوجية إلى طبيعة العناصر المقاوِمة لبناء دولة عصرية،
والمناهضة لتبني العقلانية كمبدأ قيمي يوجه طرق تسيير الشأن العام وأيضا يساهم
في تنزيل البرامج الإصلاحية الرامية إلى إخراج الدولة والمجتمع من عنق زجاجة التخلف.
وتجب الإشارة دائما إلى هذا التخلف كمعطى بنيوي مرتبط بأزمة التنمية ومحدودية
الإصلاحات المعتمدة؛ لأن تأهيل العقليات عبر التكوين والتعليم يبقى شرطا مهما لإعادة
بناء سياسة تنموية فعالة. يوجد في مصر اليوم مرحلة مفصلية يصاحبها تشاؤم ورغبة
في الهجرة؛ لأن محددات الاستقرار تبقى هشة في غياب إرادة سياسية قوية وبناء
ديمقراطي قوي يسمح ببناء دولة الحق والقانون، يتم بواسطتها إعادة الاعتبار للمواطن
من خلال القطع مع المنطق الزبوني والريعي الذي بسببه اغتنت الكثير من أفراد النُّخَب
المتحكمة في المشهد السياسي اليوم. ويبقى بناء الانتقال المصري على أسس
ديمقراطية جديدة رهينا بتَشكل نخب تحمل منطقا ديمقراطيا، وأيضا كفاءات ذات
استقلالية قادرة على بعث الروح في هذا الانتقال الذي يمر اليوم بمرحلة الموت
السريري ويحتاج إلى جرعات ديمقراطية تخرجه من الغيبوبة مثلما تساهم في إعطاء
الاستثناء المصري شكلا ومضمونا يضفيان عليه طابعا حداثيا وديمقراطيا.