( اذكرنى عند ربك )
تأملات وتدبر في سور يوسف
خادمة القرآن/ ناهد عثمان
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } ..
{ اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } ..
تضيق المساحة ويبدو يوسف حافِي الأسباب في مَتاهة السّجن ؛ إلاّ مِن هذه الكَلمة !
{ اذْكُرني } ..
مثل مَن يُحاولُ أنْ يَلمس فَجر النّجاة ، ويَعْبُـر إلى ضفّة الأمَل ؛ هارباً من مَنفاه صوب نهاية الظلمة ..
كان يوسف يرخي للأمل العنان إلى موانىء الفرج .. وكان توقيت الأقدار مُختلفا !
{ اذكُرني } ..
تلك الكلمة ؛ كلّفته انتظـاراً طَـويـلاً ..
فهل كَـانَ التّوق للمُغـادرة ؛ خَطيـئة ؟!
وهل كان القلب في عجلٍ ..
..
{ اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } .. أين الخلل وما هو الفارقُ بينَ الحُلم بالمُمكن ؛ والحُلم بما يُشبه المُستحيل ؟
بينَ مجرّد الخُروج مِن بوابة السّجن ؛ وبينَ الخُروج للجلوس على العَرش ؟
بينَ مُهمّةٍ تُخيطُ للمَجد أثوابه : وبينَ مُجرد النّجاة ؟
كانت الأقدارُ ؛ مَشغولةٌ يايوسف باصطفائِك ، وكُنتَ أنت َمَشغولاً بالنّجـاة ..
وكانَ الفارق بينَ المَقاميـن
بين ( اذكرني عند ربك ) و ( ارجع إلى ربك )
هو الفارقُ الزّمني { فَلبثَ في السّجن بِضعَ سِنين } !
لـذا ..
{ فأنسَاهُ الشَيطان } ..
إذ كـانَ اللهُ يريد ليوسُف ؛ اكتمالَ الحريـة ..
وكمَالها ؛ يصنعه التَّـرك المُطلـق .. التّسامي التام !
{ فَأَنسَاهُ } ..
هذا قدَر الزمن المَنسيّ ؛ حيث تتعثّر ذاكرةُ السّاقي ، وتتعثـّر دُروب النّجاة إليه ..
وفي مَهبّ النِّسيان ؛ يَبدو السّجـن أبديـاً !
مَـا أقسَى ..
أن يَلمح الأمـَل انطِفاء النّهايـة !
{ فأنْسَاهُ } ..
ترى كيفَ يتماسَك السّجين ؛ وَخطواته تتعثـّر في عَـراء الأسباب ؟
هلْ ينجو السّجـين ؛ بِتَقبُّل الحُطام ؟
بالإعتراف ؛ أنَ ما يجري هو اتّساع المأسَاة !
كيفَ يتجاوز السّجين كُل هذا القَلق اليوميّ .. كيف ؟!
في السّجن ؛ يتوقّف صَخب الزّحام .. يهدأُ صوتُ التاريخ ..
ويَطوف الصّمت على كل السجناء !
وتَلحظ العَين فجأة ؛ كيفَ يختفي مِن النّص التَعبير بـ { يـَا صاحبيِ السّجـن } ..
حيث يَمتدّ مـَتنُ الوحدة طويلاً ..
خالياً مِن أسئلتهم ..
خاوياً مِن أحلامهم ..
فكيف نَـجَى يوسف مـِن كـُل هذا الفَقد ؟!
ها هو يَمتحنهُ الوقت ..
يمتحنُ فراغه مِن كل شيء ..
يمتحنُ فراغه من المَـال ..
مِن العـِزّ .. مِن السُلطة ..
من الصُّحبة ؛ ومن الأهل !
فكلّ السُجناء لهم زُوّارٌ ؛ إلا يوسف لا أحدَ يقتفي أثرَ الوجع في روحه !
في هذا الصّمت المُتّسع ؛ يعثُـر يوسف على المسَافة الفارقة بين الصّمت وبينَ الصّفاء ..
يعثُـر على ذاته ؛ ويَحمي نفسه من الإنهيار !
فهل الصّمت مدرسة ؟
في الصّمت ؛ تَصنع صَوتك الداخلـيّ .. وتَجمعُ مـا تشـَرّد منك ..
ومع الأيام ؛ تتعلّم أنَ الثرثرة حديثُ الضُّعفاء !
ترى هل كانت بعضُ المشاهد القادمة ؛ تنتظرُ تجربة يوسُف ؟
مَشهد رؤية إخوته ، وأصواتهم وهي تَعلو { إنْ سرقَ فقد سرقَ أخٌ له من قبل } !
الهُدوء الذي خَلق قدرة { ولمْ يُبدِها لهم } ..
مَشهدُ أخيه في فوضَى الخوفِ مـن الإعتقال ..
سُكونه وهو يَسمع أنينهم { إنَّ له أباً شيخاً كَبيراً } ..
استعلاءُ الروح { فاسْألـه مَـا بـالُ النُّسوة } !
لا شَيء يستفزّ يوسف ..
وتلك آثار مدرسةُ الصَمت والعُزلة !
لقد أخـذَ يوسف من حالةِ الغياب ؛ ما يكفي لحضوره ..
أخذَ من الصّمت ؛ ما يكفي لهدوءٍ لـنْ تستفـزّه كُـل الأحـْداث الآتية !
نحنُ بالصمت الطَويل ؛ نتعلّم كيف نبني جداراً حول ثباتنا ..
طُمأنينـَتنا ..
وحولَ رُدود أفعالنا !
نطلّ عبرَ الصّمت على جِراحنا ..
نُخيط أحلامنا ..
والجِراح القَديمة ؛ تفقدُ لُغتها ، وتُصبح النجاة بُطُولـة !
في السّجن ؛ تتضاعف قيمةُ الأشياء الأصيلة ، ويتَسامى السّجين عن الصغائر ..
رُبما لهذا ؛ لم يتوقَف يوسف عند العِتاب .. { مِن بَعد أنْ نزغَ الشيَطانُ بيني وبينَ إخوتي } !
وفي البَوح الداخلي ؛ تَصطفي الرُوح معاني الحياة ..
حيثُ يُدرك يوسُف قيمةَ العُمر ؛ فَيبدو ما تبَقـّى أحوج إلى { توَفّني مُسلماً وألحِقني بالصّالحيـن } !
إنّ تجربة السّجن ؛ تَجلو عن الرُوح نَقائصها ..
ينظُر يوسُف في السّجن ؛ فيـَرى آلافَ الأرواح بـِلا بارِقـة أمـَل ..
وفي المكان ؛ تتكدّس الجثَامين الحيّة حيثُ الإنتظـار !
البُرودة التي تنهشُ القلوب ..
كآبةُ المكـَان ..
والمَلل ؛ إذْ يفـوحُ مـِن ثِيـاب الأيـَام ..
الّليل الجاثم في وُجوههم ..
والإجابةُ الواهنة التي لا تَصِل ..
والحُزنُ الذي يَنشَط ُليلاً !
لكنَ يوسف ؛ استطاعَ أنْ يُهيمنُ على وِحدته .. ويأوي إلى عُزلته ؛ كيْ تنجو آلافُ الّلحظات مِن عُمره من دوّامة السّجن ..
مِن دوّامة المَوت البَطيء ..
مِن أنْ ينتهي على قارعةِ النّسيان ..
فهلْ تخلُق العُزلة إنساناً ؛ لا تُمكُـن هَزيمته
؟!
رُبما ..
فليسَ هناك أكثرَ وحشةً مِن الوحـدة ..
والصّلابة ؛ هي نـِتاجها !
وفي هذه العُزلة ..
حملَ يوسُف عـِبءَ رُوحه ..
وأدركَ أنَ الصّمت ؛ كـَونٌ مـن التأمّـل !
لقد كانت عُزلة يوسُف ؛ هي الصّمت المُمتلىء ..
حيثُ كان يوسُف يَحرُث تُربَـة الغَيب ؛ بإعـدادِ رُوحه لرؤيا تنتظرُ تأويلها !
زر الذهاب إلى الأعلى