أسباب السعادة يوم القيامة
بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
كل يسعَى في هذه الحياة لمنافعِه، وإصلاحِ أموره ومطالبِ معاشِه ، فمنهم من يُصلِح دينَه مع إصلاحِ دُنياه، وهؤلاء الذين آتاهم الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاهم عذابَ النار، ومنهم من يسعَى للدنيا ويُضيِّعُ نصيبَه في الآخرة، وأولئك الذين يتمتَّعُون ويأكلُون كما تأكلُ الأنعامُ والنارُ مثوًى لهم، وكلُّ همٍّ وعملٍ له أجلٌ ينتهِي إليه ، والسعادةُ كلُّ السعادة، والتوفيقُ كلُّ التوفيق، والفوزُ كلُّ الفوز في الاستِعداد للموت؛ فالموتُ أولُ بابٍ للجنة أو أولُ بابٍ للنار، والاستِعدادُ للموت بتحقيقِ التوحيدِ لله رب العالمين؛ بعبادةِ الله لا يُشركُ به شيئًا، ومُجانبَة الشركِ كلِّه .
فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه مراقبة مَن يعلم أنَّه يَسمع ويَرى، وإيَّاكم والاغترارَ بزهرة الحياة الدنيا، فقد اغترَّ بِها قومٌ قبلكم فأوردتهم مواردَ العَطَب والرَّدى، وأسكرتهم برونقِها فما أفاقوا إلا وهُم في عسكر الموتى، كانوا أشدَّ مِنكم قوةً وأكثرَ أموالًا وعُددًا، كانوا أطولَ مِنكم آمالًا، وأحسنَ أثاثًا ومنظرًا، سَرَت إليهم الأقدار فمَا ونَت في سيرها، وما أبْقَت مِنهم أحدًا، فما أغنى عنهم ما كانوا يُمتَّعون لمَّا نَزَل بِهم القدر، وقرُب المَدى، وما كان لهم مِن أولياء ينصرونهم مِن دون الله .
ولم يَجدوا لهم مِن دونه موئلًا وملتحدًا، فجأهم هاذم اللذات وكان الأجلُ مِمَّا أمَّلوه أعجل، وسَطَا بِهم رَيبُ المنون مُسرعًا، فما توانى في أخذهم وما أمهل، وأُخِذوا وهُم كارهون، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، ثُمَّ رُدُّوا إلى الله مولاهم الحق، وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون، وحاق بِهم ما كانوا يعملون، فاستحال النعيم عذابًا، والبكاء دمًا، وسَل عنهم تلك القصورَ الدامرة، والقبورَ الدائرة، والعظامَ الناخرة، وكيف كان السؤال والجواب؟
فالموتُ غايةُ كل مخلُوقٍ على الأرض، والموتُ نهايةُ كل حيٍّ في هذه الدنيا، وقد كتبَه الله حتى على الملائكة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومن دونَهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وملَكُ الموت يمُوتُ ، ولنعلم أن الموتُ آيةٌ من آياتِ الله الدالَّة على قُدرة الله عز وجل وقَهره لمخلُوقاته ، ومن أدامَ ذكرَ الموت رقَّ قلبُه، وصلُح عملُه وحالُه، ولم يتجرَّأ على المعاصِي، ولم يُضيِّع الفرائِض، ولم تغُرَّه الدنيا بزُخرفها، واشتاقَ إلى ربِّه وإلى جناتِ النعيم. ومن نسِيَ الموتَ قسَا قلبُه، وركَنَ إلى الدنيا، وساءَ عملُه، وطالَ أملُه؛ فتذكُّرُ الموت أعظمُ المواعِظ.
ولن تزولا قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن خمسٍ: عن عُمره فيما أفناه، وعن شبابِه فيما أبلاه، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيم أنفقَه، وماذا عمِلَ فيما علِم ، فتذكَّروا الموتَ تذكُّرًا يحمِلُكم على أداء الفرائض وفعل الطاعات، وترك المعاصِي والمناهِي والمُحرَّمات والمُنكرات، وأقلِعوا عن الذنوب والأوزار، وحاذِروا السقوطَ في ورطة الإصرار ، وحاسبوا أنفسكم قبل القدوم على الله، حاسبوا أنفسكم قبل أنْ تحاسَبوا، وزِنوها قبل أنْ توزنوا، وتأهَّبوا للعرض الأكبر على الله، ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ).
واتقوا الله فإنَّما خُلِقتم في الدنيا للعبادة لا للتخليد، وأفِيقوا فإنَّ قُدَّامَكم المقامُ العتيد، والحسابُ الشديد، والميزانُ الذي يطير بالحبِّة فلا يَحيد، والكتابُ الذي يطير فيصير قلادة في العُنق والجِيد، والصراطُ الذي يُقال: مُرَّ عليه، وهو أحدُّ مِن الحديد، وهو منصوبٌ على جسر جهنم التي يُقال لها: هل امتلأت؟ وتقول: هل مِن مزيد، ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ).
واتق الله وأطعه فيما أمَر، وفكِّر في نفسك فأنت أحق مَن فَكَر، هل ينفعك مِن الله مالٌ أو جاهٌ أو مَعشر؟ أنعَمَ عليك وآواك، وتفضَّل عليك وأعطاك، ومَنَّ عليك بالسمع والفؤاد والبصر، فكيف حُجَّتك إذا سألك عن شُكر نعمه عليك يوم الفزَع الأكبر؟ وكيف جَوازك على الصراط وهو أدقُّ مِن الشَّعَر، وأحَرُّ مِن الجَمر، وأحدُّ مِن السيف الأبتر؟ يُؤمر بالجواز عليه، فمَن نجا فإلى جنَّة المُستقر، ومَن هوى بذنوبه ففي سَقر .
فشُدوا الرِّحال، فقد قرُب الارتحال، وأصلحوا الأعمال، فقد قرُبت الآجال، وأعِدُّوا الجواب فستسألون، فبينما المرءُ مغرورٌ بتقلُّبِه، مغمورٌ بتكسُّبه، إذ تبدَّى له ملك الموت الذي كان عنه مُحتجبًا، فقضى فيه بالذي أمرَه بِه ربُّه، فنُزِعت مِنه روحه، وفارقت جسده، والاستِعدادُ للموت بأداء حقوقِ الخلق، وعدم تضييعها أو المُماطلَة بها؛ فحقُّ الله قد يعفُو عنه إذا كان دون الشركِ، وأما حقوقُ العباد والخلق فلا يعفُو الله عنها إلا بأخذِها من الظالِم وإعطاءِ المظلُوم حقَّه، والاستِعدادُ للموت بكتابة الوصيَّة، وألا يُفرِّطَ في ذلك، والاستِعدادُ للموت بأن يكون مُتأهِّبًا لنُزولِه في كل وقتٍ.
واحذروا أنْ تجعلوا الدنيا أكبَرَ همِّكم، ومبلغَ علمكم، واعتبروا بمَن مضى قبلكم مِن الأمم الخالية، أهلِ المراتب العالية، كيف طحنتهم الدنيا طحن الحصيد، وأسكنتهم بعد القصور بطن الصَّعيد، سبقونا بتقضِّي الأعمار، ونحن على الآثار، فرحِم الله امرأً لم يجعل الدنيا على باله، واشتغل بالآخرة فكانت أهمَّ اشتغاله، واستعدوا رحمكم الله للموت وأعماله، والقبر وأهواله، والملَك وسؤاله، والرِّب وجلاله، وهل يُعطى كتابه بيمينه أو بشماله، وهل يُدعى إلى النِّعيم وظلاله، أمْ إلى الجحيم وأغلاله، والله يقول وأصدق القول مقالُه .
وألجِموا النفوس عن تعدِّيها وطغواها، فليس لها والله إلا ما قدَّمت يداها، ولو كان لها يوم القيامة ملء الأرض ذهبًا ما نفعها ولا أجْدَاها، أمَا والله لتُبعثُنَّ ليومٍ عظيم، يَجمع الله فيه الأُمَم أُوْلَاها وأُخْرَاها، ولتُحشرُنَّ كما بدأكم أوَّلَ مَرِّة، ولتُحاسبُنَّ بأكبر الأعمال وأدناها، ولتؤدَّن المظالم مِن الظلمة على الرِّغم مِنهم كُبراها وصُغراها، ولتكونُنَّ إلى دارِ نعيمٍ أبديٍّ يُنسِي عناء الدنيا وشقاها، أو إلى دارِ عذابٍ مُفضِحٍ يُذهِل عن نعيم الدنيا وحلاها.
وإيَّاكم والتغافلَ والصُّدود؛ فإنَّ أمامَكم القبر، فاحذروا ضغطَته ووحشتَه، وإنَّ وراءَ ذلك ما هو أشدّ مِنه، يومُ يَشيب مِن هوله المولود، ألا وإنَّ وراءَ ذلك ما هو أعظم مِنه، دارٌ معدومٌ رجاؤها، محتومٌ بلاؤها، موحِشةٌ مسالكها، مظلمةٌ مهالكها، مخلَّدٌ أسيرها، مؤبَّدٌ سعيرها، عالٍ زفيرها، طعامُ أهلها الزَّقوم، وشرابُهم الحميم، وعذابُهم أبدُا فيها مُقيم، الزَّبانية تقمعُهم، والهاوية تجمعُهم، لهم فيها بالويل ضَجيج، ولِلهبِها فيهم أَجِيج، أمانِيُّهم فيها الهلاك، وما لهم مِن أسْرِها فِكاك، قد شُدَّت أقدامُهم إلى النواصِي، واسودَّت وجوهُهم مِن ذُلِّ المعاصي، يُنادُون مِن فِجاجِها وشعابها بُكِيًّا مِن تَرادُف عذابها .
ويوم القيامة تعظُمُ الحسرةُ والندامةُ بالتفريط وعدم الاستِعداد للموت، قال الله تعالى: ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) فحافِظوا على أسبابِ حُسن الخاتمة؛ بإقامة أركان الإسلام الخمسة، واجتِنابِ المآثِمِ والمظالِم، ومن أعظم أسباب حُسن الخاتمة ، دوامُ الدعاء بحُسن الخاتمة .