اسلاميات

أخو الرسول صلى الله عليه وسلم في الرضاعة وأول من دفن بالبقيع

أبو السائب عثمان بن مظعون رضي الله عنه، أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، ومن الذين فازوا بصلاة النبي عليهم بعد موتهم، وهو أول من دُفِن بالبقيع، قال ابن حجر: “توفي بعد شهوده بدراً في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين، وأول من دفن بالبقيع منهم”.
في السنة الرابعة لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم أسلم عثمان بن مظعون رضي الله عنه، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته بمكة جالس، إذ مَرَّ به عثمان بن مظعون، فَكَشَرَ (تبسم) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجلس؟ قال: بلى، قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله، فبينما هو يحدثه إِذْ شَخَصَ (نظر) رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فنظر ساعة إلى السماء، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض، فَتَحَرَّفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره، وأخذ ينفض رأسه كأنه يَسْتَفْقِهُ ما يُقال له، وابن مظعون ينظر، فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له، شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة، فأتبعه بصره حتى توارى في السماء، فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى، قال (عثمان): يا محمد فيم كنت أجالسك وآتيك؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة! قال:وما رأيتني فعلت؟ قال: رأيتك تشخص ببصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك فتحرفت إليه وتركتني فأخذت تنفض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك، قال: وفطنتَ لذاك؟ قال عثمان: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني رسول الله آنفًا وأنت جالس، قال: رسول الله؟! قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل:90)، قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببتُ محمداً) رواه أحمد وصححه أحمد شاكر.
قال ابن كثير: “وقد ورد في نزول هذه الآية الكريمة: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} حديث حسن رواه الإمام أحمد”. وقال النسفي في تفسيره: “وهذه الآية سبب إسلام عثمان بن مظعون، فإنه قال: ما كنتُ أسلمت إلا حياء منه عليه الصلاة والسلام لكثرة ما يعرض عليّ الإسلام، ولم يستقرّ الإيمان في قلبي حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده، فاستقرّ الإيمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: والله، إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر. وقال أبو جهل: إنَّ إلهه ليأمر بمكارم الأخلاق. وقال ابن مسعود: هي أجمع آية في القرآن للخير والشر. ولهذا يقرؤها كلّ خطيب على المنبر في آخر كل خطبة، لتكون عظة جامعة لكلّ مأمور، ولكل منهيّ”.
يا عثمان إني لم أومر بالرهبانيّة:
عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: (لما كان من أمر عثمان بن مظعون الذي كان من ترك النساء (زهده في زوجته)، بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عثمان إني لم أومر بالرهبانيّة، أرغبت عن سنتي؟! قال: لا يا رسول الله، قال: إنّ من سنتي أن أصلي وأنام، وأصوم وأطعم، وأنكح وأطلق، فمن رغب عن سنتي فليس مني، يا عثمان إنّ لأهلك عليك حقًّا، ولعينيك عليك حقًّا) رواه أحمد وحسنه الألباني.
درس في وفاة عبد الله بن مظعون:
عن خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن أمَّ العلاء ـ امرأة من نسائهم قد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ـ أخبرته أن عثمان بن مظعون طار لهم في السُّكنى، حين اقترعت الأنصار على سُكنى المهاجرين، قالت أم العلاء: فاشتكى (مرض) عثمان عندنا فمرَّضْناه حتى تُوُفِّيَ، ثم جعلناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: رحمة الله عليك أبا السائب (كنية عثمان بن مظعون)، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريكِ أن الله أكرمه؟ قالت: قلت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن؟ قال صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه والله اليقين (الموت)، والله إني لأرجو له الخير، وما أدري والله وأنا رسول الله ما يُفعل بي، قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده، قالت: فأحزنني ذلك فنِمْتُ فأُرِيتُ لعثمان بن مظعون عيناً تجري، فجئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ذاك عمله يجري له) رواه البخاري. وفي رواية لأحمد قالت أم العلاء: (هَنيئًا لك الجنةَ عثمان بن مظعونٍ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها نظر غضبانٍ فقال: وما يُدريكِ؟! قالت: يا رسول الله فارِسُك وصاحبُك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واللهِ إني رسول الله وما أَدْرِي ما يُفعلُ بي، فأشفَق الناس على عثمان، فلمَّا ماتت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْحَقِي بسَلَفِنا الصالح الخيرِ عثمان بن مظعون).
لم يعترض النبي صلى الله عليه وسلم على قول أم العلاء رضي الله عنها: (رحمة الله عليك يا أبا السائب) إذ هو كلام صحيح لاشيء فيه، لأنه دعاء له بالرحمة، أما حينما قالت: (فشهادتي عليك لقد أكرمك الله) و(هنيئا لك الجنة يا أبا السائب)، اعترض النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: (وما يدريكِ أن الله أكرمه؟) ثم قال: (والله إني لأرجو له الخير)، وفي ذلك تصحيح وتعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لأم العلاء رضي الله عنها، إذ لا حرج ولا بأس في أن يدعو الإنسان للميت، بل هو مطالب بذلك لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أحاديث صحيحة في ذلك، لكن إطلاق الحكم لإنسانٍ ما بأنه من أهل الجنة، أو آخر بأنه من أهل النار، مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، إلا إذا ثبت لأحد شهادة بالجنة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق، مثل: بلال، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وبقية العشرة المبشرين بالجنة، وفاطمة، وخديجة، وعائشة، وسائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين، قال ابن عثيمين: “كل إنسان يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في الجنة فهو في الجنة، وكل إنسان يشهد أنه في النار فهو في النار، وأما من لم يشهد له الرسول فنشهد له بالعموم، نقول: كل مؤمن في الجنة، وكل كافر في النار، ولا نشهد لشخص معين بأنه من أهل النار، أو من أهل الجنة، إلا بما شهد له الله ورسوله”.
من مقاصد دراسة السيرة النبوية استخراج الدروس والفوائد من أحداثها ومواقفها, ليستفيد المسلم منها في واقع حياته, ويحصل له التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام الذين قال الله تعالى عنهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(الفتح:29)، ومن هؤلاء الصحابة عثمان بن مظعون رضي الله عنه، الذي عُرِف بزهده وحرصه على عبادته لربه عز وجل، والذين أكرمهم الله تعالى بتقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لهم وصلاته عليهم بعد موتهم، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قبَّلَ عثمان بن مظعونٍ وهو ميِّت وهو يبْكي) رواه الترمذي وصححه الألباني. وعن الأسود بن سريع قال‏:‏ (لما مات عثمان بن مظعون أشفق المسلمون عليه، فلما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون)‏ رواه الطبراني‏.‏ وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنه قال: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: (الْحَقِي بسَلَفِنا الصالحِ الخيرِ عثمان بن مظعون) رواه أحمد. وقال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء في ترجمته لعثمان بن مظعون: “من سادة المهاجرين، ومن أولياء الله المتقين الذين فازوا بوفاتهم في حياة نبيهم فصلى عليهم”.. فهنيئا لك أبا السائب تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لك، وبكاؤه وثناؤه وصلاته عليك .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى